“«نعمتان ما خلا موجود عنهما ، ولا بد لكل مكوّن منهما : نعمة الإيجاد ونعمة الإمداد ، أنعم أولا بالإيجاد ، وثنى بتوالي الإمداد». كما فى (الحكم). فاسمه (الرحمن) يقتضى إيجاد الأشياء وإبرازها ، واسمه (الرحيم) يقتضى تربيتها وإمدادها.”
“يقول سبحانه : يا من هو منى قريب ، تدبر سرّى فإنه غريب ، أنا المحب ، وأنا الحبيب ، وأنا القريب ، وأنا المجيب ، أنا الرحيم الرحمن ، وأنا الملك الديان ، أنا الرحمن بنعمة الإيجاد ، والرحيم بتوالي الإمداد. منّى كان الإيجاد ، وعلىّ دوام الإمداد ، وأنا رب العباد ، أنا الملك الدّيان ، وأنا المجازى بالإحسان على الإحسان ، أنا الملك على الإطلاق ، لو لا جهالة أهل العناد والشقاق ، الأمر لنا على الدوام ، لمن فهم عنا من الأنام.”
“فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم ، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم ، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير ، الذي رسخت أقدامه فى العلوم الظاهرة ، وجالت أفكاره فى معانى القرآن الباهرة ، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر ، عربية وتصريفا ولغة وبيانا ، وفقها وحديثا وتاريخا ، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال ، ثم غاص فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما ، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال ، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم ، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر ، وباطن لأهل الباطن ، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن ، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم ، ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر ، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة وإشارة دقيقة ، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم ، ولا يبادر بالإنكار فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول ، ولا يدرك بتواتر النقول.”
“وقال الحلاج فى هذا المعنى : لم أسلم النفس للأسقام تتلفها إلّا لعلمى بأنّ الوصل يحييهاوقال أيضا : اقتلوني يا ثقاتى إنّ فى قتلى حياتىوحياتى فى مماتى ومماتى فى حياتىأنا عندى : محو ذاتى من أجلّ المكرماتوبقائى فى صفاتى من قبيح السيّئات”
“وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)الإشارة : اعلم أن المنكرين على أهل الخصوصية ثلاث فرق : أهل الرئاسة المتكبرون ، والفقهاء المتجمدون ، والعوام المقلدون ، يصدق عليهم قوله تعالى : وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ إذ لا علم عندهم يميزون به المحق من المبطل ، وإنما هم مقلدون ، فوزرهم على من حرمهم بركة الاعتقاد ، وأدخلهم فى شؤم الانتقاد ، ولقد أحسن «ابن البنا» حيث قال فى شأن أهل الإنكار : واعلم رعاك الله من صديق أنّ الورى حادوا عن التحقيقإذ جهلوا النفوس والقلوب وطلبوا ما لم يكن مطلوباواشتغلوا بعالم الأبدان فالكلّ ناء منهم ودانوأنكروا ما جهلوا وزعموا أن ليس بعد الجسم شىء يعلموكفّروا وزندقوا وبدّعوا إذا دعاهم اللّبيب الأورعكلّ يرى أن ليس فوق فهمه فهم ولا علم وراء علمهمحتجبا عن رؤية المراتب علّ يسمى عالما وطالبهيهات هذا كلّه تقصير يأنفه الحاذق والنّحرير”
“يقول الحق جل جلاله معلّما لعباده كيف يثنون عليه ويعظمونه ثم يسألونه : يا عبادى قولوا : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي : الثناء الجميل إنما يستحقه العظيم الجليل ، فلا يستحق الحمد سواه ، إذ لا منعم على الحقيقة إلا اللّه ، وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ. أو جميع المحامد كلّها للّه ، أو الحمد المعهود فى الأذهان هو حمد اللّه تعالى نفسه فى أزله ، قبل أن يوجد خلقه ، فلما أوجد خلقه قال لهم : الحمد للّه ، أي : احمدونى بذلك الحمد المعهود فى الأزل.وإنما استحق الحمد وحده لأنه رَبِّ الْعالَمِينَ ، وكأن سائلا سأله : لم اختصصت بالحمد؟ فقال : لأنى ربّ العالمين ، أنا أوجدتهم برحمتي ، وأمددتهم بنعمتي ، فلا منعم غيرى ، فاستحققت الحمد وحدي”
“قلت : ورأس الهوى وعنصره هو حب الجاه وطلب الرئاسة. فمن نزل إلى أرض الخمول ، وخرق عوائد نفسه فيه ، انخرقت له الحجب ، ولاحت له الأنوار ، وأشرقت عليه الأسرار فى مدة قريبة ، وباللّه التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق.”