“لقد شرعت العقوبات لضمان تنفيذ الحد الأدنى من التشريع الذي لا يقوم المجتمع بدونه. ولكن ذلك لم يكن كل هدف الإسلام. فهو يكفي لحفظ المجتمع من السقوط، نعم. ولكنه لا يكفي لترقية المجتمع وحثه دائمًا إلى الأمام. فهذا أمر تقوم به الرغبة المنبعثة من داخل الضمير. الرغبة النبيلة المتطوعة التي لا تبحث عن حدود القانون لتقف عندها ملقية أثقالها، نافضة يديها. وإنما تبحث عن الآفاق العليا تحاول الصعود إليها. وتجد لذاتها في ذلك الصعود. وهذا لا يجيء بالتشريع. وإنما يجيء بالتوجيه. توجيه القلب إلى الله، ووصله به والتطلع إلى رضاه.وهما أمران متلازمان.. الحد الأدنى المفروض، والحد الأعلى المطلوب. ومن ثم تلازم التشريع والتوجيه في القرآن، وامتزجا فهما شيء واحد عسير التفريق!”
“ليس هناك طريق للآخرة اسمه العبادة. وطريق للدنيا اسمه العمل!وإنما هو طريق واحد أوله في الدنيا وآخره في الآخرة. وهو طريق لا يفترق فيه العمل عن العبادة ولا العبادة عن العمل. كلاهما شيء واحد في نظر الإسلام. وكلاهما يسير جنباً إلى جنب في هذا الطريق الواحد الذي لا طريق سواه!”
“أما المجتمع المسيحي - إذا صح هذا التعبير - فالمسيحية لا تحكمه، والنظم فيه لا تعتمد على العقيدة، إنما تعتمد أساسا على القوانين الوضعية، حيث تقف العقيدة في عزلة عن المجتمع، تحاول أن تعمل في ضمير الفرد وحده، وبديهي أن قوة النظام الاجتماعي لا تمهل الفرد ليستمع إلى صوت الضمير ما لم يكن هذا النظام ذاته قائما على العقيدة التي تعمر الضمير.”
“حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر فستقتصد في ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر , وستقف في ارتكابه عند الحد الأدنى الذي ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس , وقد تحاول الرجوع عنه في يوم من الأيام , أما حين يكتسب المنكر في حسك الشرعية فلماذا تقتصد في ارتكابه , ولماذا تقف عند حد من الحدود ؟!إنها هي ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه . . لأنهم لا يقفون في ارتكاب المنكر عند حد معلوم.”
“يُغفل المجتمع تلك الضوابط الخفية التي أنشأها في أعماق نفسه الجيل السابق المتحفظ، والتي لن يخلفها هو للجيل المقبل لأنه غير مؤمن بها، يظنها تشدداً بلا ضرورة ولا لزوم!ثم يتراجع هذا الجيل ويجيء جيل جديد يربيه الأب والأم الذان ذاقا شيئاً من "المتعة" ولم يسقطا السقوط الكامل ولن ينظرا إلى التقاليد "المتزمتة" بعين الاحترام.ومن ثم ينشأ الجيل الجديد وقد ضعف الشخص الواقف في داخل النفس بالمرصاد، ولانت العصا لم تعد تترك أثراً في الضمير،ـ وتفككت التقاليد فلم تعد تمنع المحظور.ويأتي جيل يرى أمةً قد تعرت، من شيء من الثياب وشيء مماثل من الفضيلة.الولد الذي يرى أمه عارية لا تثور في نفسه نخوة الرجولة والحرص على الأعراض، فقد زالت في نفسه حرمة الجسد، وصار نهباً يباح للعيون وبعد ذلك لما هو أكثر من العيون.”
“حين تكون أصرة التجمع الأساسية في مجتمع هي العقيدة والتصور والفكرة ومنهج الحياة، ويكون هذا كله صادرا من إله واحد، تتمثل فيه السيادة العليا للبشر، وليس صادرا من أرباب أرضية تتمثل فيها عبودية البشر للبشر .. يكون ذلك التجمع ممثلا لأعلى ما في "الإنسان" من خصائص..خصائص الروح والفكر..فأما أن تكون آصرة التجمع في مجتمع هي الجنس واللون والقوم والأرض...وما إلى ذلك من الروابط، فظاهر أن الجنس واللون والقوم والأرض لا تمثل الخصائص العليا للإنسان..فالإنسان يبقى إنسانا بعد الجنس واللون والقوم والأرض، ولكنه لا يبقى إنسانا بعد الروح والفكر ! ثم هو يملك - بمحض إرادته الحرة - أن يغير عقيدته وتصوره وفكره ومنهج حياته، ولكنه لا يملك أن يغير لونه ولا جنسه، كما إنه لا يملك أن يحدد مولده في قوم ولا في أرض..فالمجتمع الذي يتجمع فيه الناس على أمر خارج عن إرادتهم الإنسانية فهو المجتمع المتخلف..أو بالمصطلح الإسلامي.. هو "المجتمع الجاهلي" .”
“ان الاسلام يعترف بالكائن البشرى كما هو -بنوازعه وميوله الفطرية - ولكنه يهذبها ويضع لها الحدود فى الدائرة التى تحقق بها مصالح المجتمع ومصالح الفرد ذاته وأنه اذا كان يطلب من النفوس ان تتسامى وتترفع ،فأنه لا يفرض هذا فرضا ، بحيث يعتبر المخالف له مذنبا امام الله وفى نظر الشرع وانما هو يفرض فقط الحد الادنى الذى لا تصلح بدونه الحياة، ويترك المجال بعد ذلك للسمو والتطهر ، تطوعا لا فرضا . فلا يثقل على النفوس ،لا يقهر نوازع الحياة فى الاحياء”