“قرأت خبراً وأنا فى طريقى للمنيا بالقطار عن لائحة المطبوعات الحكومية التي صدرت فى أواخر عهد السلطان عبد الحميد الثاني من تسعة بنود.. أهمها أنه لا يجوز الكلام عن المظاهرات و الثورات التي تحدث بالخارج , لأنه من حسن السياسة أن يعلم رعايانا المخلصون بوقوع هذه الحوادث..ولعل من أغرب تطبيقات هذه اللائحة كان الخبر المطول الذي قدمته صحيفة عثمانية للرقيب ويتضمن أنذاك تغطية لأحداث الثورة الروسية التى انتهت باستيلاء الشيوعيين على الحكم بقيادة "لينن" عام 1917.. فحذف الرقيب من مجمل ما حذف كلمات مثل "ثورة" "دستور" و"حقوق الأمة" و"ظلم" وكل ما يتعلق بالهجوم على القيصر أو ثورة الشعب.. ولم يتبق من الخبر المطول إلا سطر واحد نشرته الصحيفة فى اليوم التالي للثورة كالتالى "حدثت أمس خناقة فى روسيا"...”
“أخر تحليلات طبيبي حامل الدكتوراه الروسية أن حالتي عبارة عن اضطراب فى الوجدان ثنائي القطب.. أى له قطبان يتراوحان بين الاكتئاب الشديد و المرح الطاغي الذي يقترب من الهوس.. وأن كثيراً من الأطباء النفسيي الجهلاء يشخصون مرضى على أنه فصام.. وهذا تشخيص خاطئ..”
“انظر ..أترى ثمة شعباً مستعبداً يجتمع كما تتراكم الأنقاض، و يتفرق كما تتبدد، و ليس منه فى الاجتماع و التفرق إلا صورتان للخراب كالبومة فى التشاؤم؟ إنك لتنتظر الشعب الذى يحلم و هو مستيقظ؛ ألا تراه يعمل على السخرة و يطيع بالإرادة أو بالوهم الذى صار له كالإرادة، و يشك فى أنه يخاف من المستبد أو يخاف من أن يشك فيه، و يرجو على قوّته ما يرجوه الأجير أن يملك يده ساعة ليتناول بها لقيمات يُقمن صلبه و أن ينتهى عمل يومه ليوقن أنه إنسان كالناس له يد يملكها؟ هذا دأب الاستبداد و دأب الشعب الضعيف الذى ابتلى بالنقص عن مكافأة المستبد به و مساواته؛ و كثيراً ما لا يكون هذا النقص فيه إلا بمقدار درهم واحد من الفضة التى نزلت عن مقدار الذهب. و لكن أين هذا الدرهم المتمم؟ درهم واحد من الشعب يكون الشعب كله و يجعله مالكاً بعد أن كان مملوكاً، و حاكماً بعدأن كان محكوماً، و يخرجه فى التاريخ من رتبة ألى رتبة.”
“أحيانا استيقظ في الصباح الباكر وأفتح الراديوعلى صوت الموسيقا الكلاسيك أو على اذاعة القران الكريم إذا ماضاقت بصدري الهموم ... انتهت التلاوة الجميلة ونوة المعلق باستضافة شيخ ازهري جليل سيرد على اسئلة المستمعين .. ثم توالت الاسئله العبثية التي تعود بنا إلى عصور ماقبل التاريخ . ولم يكون الشيخ الجليل يهملهاأو يؤنب سألها بل يرد عليها بحكمة العالم الفذ والمتدين الورع .. ثم جاء سؤال غريب من مستمع : هل كان صحابة رسول الله صلى الله علي وسلم يمشون جواره أو خلفه ؟! في الوقت الذي تدكنا فيه امريكا بالقنابل الذكية في سبيلها لابادتنا. كان المستمع الكريم مشغولا بـهذا السؤال ؟ .. وبدلا من أن يوبخه الشيخ الجليل بـأدب أو ينهره أو حتى يفهمه خطأه.. بسمل وحوقل واستعاذ وتنحنح وقال : إن صحابة الرسول كانوا يمشون معه حسب أشعة الشمس فـلو كانت اشاعتهاخلف النبي أو في مواجهته فسيمشون بجواره لإن ظله الكريم سيكون أمامه أو خلفه. وبذلك لن يطأ الصحابة ظله الكريم .. وإن كانت أشعة الشمس من يساره فظله الكريم سيكون على يمينه وصاحبته سيكونون عن يساره حتى لا يطأوا ظله وهكذا”
“لم يكن عملاقا هكذا ... بدت الشرايين و الأوردة ظاهرة فوق يده... اكتسى لحما واكتنزت عضلاته .. وهي سمة غالبة فيهم ... لا أعرف بالتحديد ماالذي ياكلونه في تنظيماتهم ؟ ... العملقة والنظافة والجهامة التي يحاولون اخفاءها بـابتسامات ليست من القلب هي التي تميزهم جميعا على اختلاف هيئاتهم.”
“ولكن من يرفضون يوليو لا يعتبرون ما حدث ثورة،ويسمونه إنقلابا ، أما ضباط يوليو أنفسهم أسموا ما حدث حركة الجيش ، ثم اضيفت لها المباركة . و أذكر أن أول من دعا إلى وصف ما حدث فى يوليو بأنه ثورة كان هو العميد الدكتور طه حسين فى مقال نشره بعد شهور قليلة متسائلا فيه كيف يقوم حدث بعزل ملك البلاد، و يغير وجهها الإقتصادى بإلغاء الإقطاع و توزيع الأرض على الفلاحين ثم يوصف بعد ذلك بأنه مجرد حركة لا ثورة ؟غير اننا نحن الشبان فى حينها لم نكن نشارك طه حسين حماسه ، و كنا نخرج فى مظاهرات الجامعة نهتف بسقوط ( حكم البكباشية ) ، و كنا نواجه قسوة لم نعتدها من قبل فى قمع المظاهرات ، و لم نتصالح كشبان ولم يتصالح الشعب مع يوليو ، ولم نعترف بعبد الناصر زعيما إلا بعد تأميم قناة السويس و العدوان الثلاثى على مصر ، ثبت لنا أنها ثورة بالفعل عندما عمدنا مختارين بالدم و حاربنا حتى انتصرنا باسترداد القناة”
“أذكر فى حديث صحفى للمؤرخ الكبير عبد الرحمن الرافعى انه اجاب عن سؤال حول الدرس الذى افاده من كتابة التاريخ فقال : تعلمت من كتابة التاريخ ، ان المؤرخ يجب ان يبحث عن كيف يلهو الشعب ، ان اللهو يكشف عن نفسية الشعب ، فتاريخ الشعب مرتبط بطريقة لهوه ، كان المؤرخون القدامى يعرفون الناس من مقابرهم ، ففى العصر الحديث يرى المؤرخ ان حياة الناس البعيدة عن السياسة ترسم بدقة جواهر السياسة ، فالابطال تصنعهم الحياة الجارية بكل ما فيها من ثورة و لهو ... وأنا على سبيل المثال من جيل كان يلهو كثيراً و يبكى كثيرا !”