“إن العودة باللغة المتكاملة النامية المتطورة الشاملة إلى لُغَيَّة محدودة، أو إلى بقايا تلك اللّغيّة لمجرد أنها محكية أو عفوية، لا يَرْقى بلساننا إلى الذوق الجماعي الذي يعبّر عن أدق الفكر كما يَفْرض أعذب الشعر، و الذي يواكب الحضارة التكنولوجية الحديثة مثلما ينظم الأزجال، و يجنّح الخيال، و يسبح مع عروس البحر!!”
“هل اللغة المحكية أقدر على نقل مصطلحات العلو مو الفنون من الفصحى التي مرّت في شؤون النقل و الترجمة بأضخم التجارب، و ما تزال تمرّ اليوم بالتجارب الضخام؟ إنْ تكن المحكيّة أقدرَ في هذا قعلاً من الفصحى فلن نختار لنا لغةً وطنية سواها، لأن شعوب العالم الحديث عندما تحوّلت إلى لغة وطنية جديدة، أو تبدو كالجديدة، لم تكتف بمثل مبادرة دانتي الذي حصر وظيفة اللسان - إذا كان شاعراً لا عالماً - بالهيام في أودية الشعر و الخيال، بل انطلقت تسابق الزمان، و تكاذ تعصف عصفاً بالمحال، إلى اللغة أو اللهجة أو اللهجات المتداولة التي ألْفَتْها أكثرَ مرانةً و طواعية، و أقدرَ على مواطبة الحضارة في عصر العلم، عصر الإلكترون و الفضاء!لا بدّ لنا أن نرى مع أكابر اللغويين أنّ انتشار اللغة - أي لغة كانت - رهنٌ بمدى إسهامها في الواقع الحضاري، و أن كل تخلّف توصم به لغتنا مثلاً ينحصر في الباحثين العرب لا في اللغة العربية.”
“تلك تجربة مرّ بها الأديب اللبناني أمين الريحاني ((الذي هجر بلاده، و هو في العاشرة من سنه، و سبقت لغة شكسبير لغةَ أبي العلاء إلى لسانه و قلمه)، ثم وقع في صراع بين اللغتين، و إذا هو يعبّر عن حيرته بقوله: (فإن كانت الإنكليزية في دمي، فلغة سيبويه في عظامي)، لكنه سرعان ما ثاب إلى أمومة العربية لما تذكّر لبنان العربي، و أنشأ يقول: (أحب لغتي و وطني لأنني أحب نفسي. و قد يحملني هذا الحب على الغلوّ أحياناً)، إلى أن يقول مخاطباً الأم اللبنانية: (علّمي أبناءك محبة الوطن الحقة. قولي لهم: إن الأجنبي لا يحترمهم إذا كانوا لا يحترمون أنفسهم. قولي لهم: إن الأجنبي لا يحتقر لغة أجداده، بل يحتقر في قلبه من يحتقرون لغة الأجداد. قولي لهم: إن اللسان العربي لسانُهم، و إن اللة العربية لمن أشرف لغات الأرض، فليتعلّموها، و لْيُتْقنوها، و لْيعزّزوها.)إن الانتهاء إلى هذه الغاية الحقيقة الفعلية، بالدعوة الصريحة إلى تعزيز العربية، من قٍبَل من يظنّ فيهم - أو كان يُظنّ ببعضهم الذهاب إلى تعدّد لغة الأم، لهو أبلغ برهان على أننا نرفض الاعتقاد بأنّ لنا بين قومنا أكثر من لغة واحدة هي العربية بالذات، و نُجمع على اعتبار كل لغة أجنبية، أخرى (أي لغة تكون) مجرّد أداة تثقيفية لتعميق جذور ثقافتنا، غيرَ منغلقين على أنفسنا”
“(من تشبه بقوم فهو منهم).و غني عن البيان أن الإسلام إنما يهدف - من وراء هذا التحذير عن التشبيه بالآخرين - إلى انتزاع كل أثر من آثار الهزيمة الداخلية في النفوس، حتى تظل الأمة قادرة على الابتكار، مؤمنة بالطريق الذاتي الذي تسلكه عن طواعية و اختيار، تعالج مشكلاتها جميعاً في ضوء منهاجها الخاص، و لقد قال الله في كتابه: (لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجاً و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، و لكن ليبلوكم فيما آتاكم)، و نعى الرسول الكريم صلوات الله عليه على الأمة المقلدة المنهارة الشعور تطلّعها إلى المحاكاة (لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا و إن أساؤوا ظلمنا، و لكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، و إن أساؤوا ألا تظلموا)ّّ”
“إن التقدمية التي لا ترى حاجة إلى معارضة قيم الدين و الأخلاق هي التي يجب علينا أن ندعو إليها و نرفع شعارها في بلاد العرب و المسلمين. إنها هي تصوغ عقليتنا صياغة جديدة، و تعطي لسياستنا و اقتصادنا مقاييس جديدة، و تخلق في مجتمعنا دولة مدبّرة جديدة لا ينحصر همّها في حفظ الأمن و النظام، ولا حتى في حماية الحدود!إننا بحاجة إلى من ينادي إلى التقدميّة بضوابط و مقاييس لا بضياع و شرود. إن مشكلتنا هي فقدان الإرادة للتخطيط و العمل المنظم المدروس.”
“على أن المشهور، في الإجماع: أنه حجة قطعية، بحيث يكفَّر مخالفُه أو يُضلّل أو يُبدَّع، و إن كان إطلاق القول بهذا الأسلوب المتشدد يخالف روح الإسلام السمح في معالجة القضايا بوجه عام، و إلى ذلك انتبه إمام الحرمين حين قال: (فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفّر، و هو باطل قطعاً، فإن منكر أصل الإجماع لا يكفّر، و القول بالتكفير و التبرّي ليس بالهيّن). و نحن نأخذ بهذا الرأي السديد، و إن كنا لا نغُضّ، و لا نريد قطّ أن نغضّ من قيمة الإجماع بين مصادر التشريع في الإسلام.و لقد صدق الشافعية حين لاحظوا بوجه عام أن الإجماع صيغة تعليمية حية تقدمية، و لقد أحسن المصلحون المعاصرون صنعاً حين نظروا هذه النظرة نفسها إلى الإجماع. و لئن كان المجمعون - في أي عصر من العصور - يمثلّلون شعْب المؤمنين، فإنهم - من غير أن ينطلقوا من كونهم هيئةً كهنوتية منظمة - إنما يمثلون شرع الله، و لا حاجة بهم و لا لغيرهم، و لا يحقّ لهم و لا لغيرهم - أن يمثّلوا الله ذاته، تعالى الله و تقدّس عن كل تمثيل!”
“و ربا الفضل المحرم بأحاديث الآحاد – و هو بيع الدرهم مثلاً بالدرهمين – لم يكن تحريمه لذاته قصداً، و انما حرم سداً للذرائع، حتى لا يتخذ وسيلة إلى الربا الجليّ الذي لا يشك فيه.و قد عرض الإمام الغزالي لعلة تحريم هذا النوع من ال ربا فقال في كتاب (الشكر) من إحياء علوم الدين: (من نعم الله تعالى خلق الدراهم و الدنانير، و بهما قوام الدنيا، و هما حجران لا منفعة في أعيانهما، و لكن يضطر الخلق إليهما من حيث أن كل إنسان محتاج إلى أعيان كثيرة في مطعمه و ملبسه و سائر حاجاته... و ما خلقت الدراهم و الدنانير لزيد خاصة، ولا لعمرو خاصة، إذ لا غرض للآحاد في أعيانهما. و إنّما خلقا لتتداولهما الأيدي فيكونا حاكمين بين الناس... فكل من اتخذ من الدراهم و الدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة... و كل من عامل معاملة الربا على الدراهم و الدنانير فقد كفر النعمة.”