“حتى حين يقول النبي صلى الله عليه و سلم: (استوصوا بالنساء خيراً، فإن النساء خلقنَ من ضِلع أعوج إن ذهبت تقيمه كسرته و إن تركته لم يزل أعوج.) يذهب في كلامه مذهب الموصي بالنساء لا مذهب المحذر منهن، و هو إذاً أقرب إلى إرادة الرقة بهنّ و استشعار حبّهنّ و الحذر البالغ من إيذاء كرامتهنّ التي لا تختلف عن كرامة الرجال بحال، بل لعلهنّ أيضاً أشد تحسساً بها حتى من الرجال.”
“هذه القمة الشامخة من السمو النفسي لم يبلغها المسلمون الأولون برسوم العبادة من غير توجيه، و لا بتوجيهات الدين من غير تشريع، بل نفحتهم بها هذه الشريعة المطهرة التي لا تني توجه حين تشرع، و تشرع حين توجه، و تحقق الجوهر في كل التعاليم، و تجعل الوصول إلى الله و التنعم برضاه غاية المؤمن الأساسية: (و رضوان من الله أكبر، ذلك هو الفوز العظيم).”
“و من الحوادث الجزئية التي قد يستأنس بها أيضاً على حجية القياس أن جارية قالت لرسول الله صلى الله عليه و سلم: إن أبي أدركته فريضة الحج، و هو شيخ زَمٍنً لا يستطيع أن يحج، فإن حججتُ عنه أنيفعه ذلك، فأجابها عليه السلام: (أرأيت لو كان على أبيك دينُ فقضيته عنه أكان ينفعه ذلك؟ (قالت: نعم، فقال: (فدَيْنُ الله أحقّ بالقضاء).أما أقوال الصحابة و أفعالهم المؤيدة لصحة العمل بالقياس فمن أهمها أن المسلمين قاسوا خلافة أبي بكر على إمامة الناس في الصلاة، و قاسوا قتال مانعي الزكاة على تاركي الصلاة.”
“(من تشبه بقوم فهو منهم).و غني عن البيان أن الإسلام إنما يهدف - من وراء هذا التحذير عن التشبيه بالآخرين - إلى انتزاع كل أثر من آثار الهزيمة الداخلية في النفوس، حتى تظل الأمة قادرة على الابتكار، مؤمنة بالطريق الذاتي الذي تسلكه عن طواعية و اختيار، تعالج مشكلاتها جميعاً في ضوء منهاجها الخاص، و لقد قال الله في كتابه: (لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجاً و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، و لكن ليبلوكم فيما آتاكم)، و نعى الرسول الكريم صلوات الله عليه على الأمة المقلدة المنهارة الشعور تطلّعها إلى المحاكاة (لا تكونوا إمّعة، تقولون: إن أحسن الناس أحسنا و إن أساؤوا ظلمنا، و لكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، و إن أساؤوا ألا تظلموا)ّّ”
“على أن المشهور، في الإجماع: أنه حجة قطعية، بحيث يكفَّر مخالفُه أو يُضلّل أو يُبدَّع، و إن كان إطلاق القول بهذا الأسلوب المتشدد يخالف روح الإسلام السمح في معالجة القضايا بوجه عام، و إلى ذلك انتبه إمام الحرمين حين قال: (فشا في لسان الفقهاء أن خارق الإجماع يكفّر، و هو باطل قطعاً، فإن منكر أصل الإجماع لا يكفّر، و القول بالتكفير و التبرّي ليس بالهيّن). و نحن نأخذ بهذا الرأي السديد، و إن كنا لا نغُضّ، و لا نريد قطّ أن نغضّ من قيمة الإجماع بين مصادر التشريع في الإسلام.و لقد صدق الشافعية حين لاحظوا بوجه عام أن الإجماع صيغة تعليمية حية تقدمية، و لقد أحسن المصلحون المعاصرون صنعاً حين نظروا هذه النظرة نفسها إلى الإجماع. و لئن كان المجمعون - في أي عصر من العصور - يمثلّلون شعْب المؤمنين، فإنهم - من غير أن ينطلقوا من كونهم هيئةً كهنوتية منظمة - إنما يمثلون شرع الله، و لا حاجة بهم و لا لغيرهم، و لا يحقّ لهم و لا لغيرهم - أن يمثّلوا الله ذاته، تعالى الله و تقدّس عن كل تمثيل!”
“إن التقدمية التي لا ترى حاجة إلى معارضة قيم الدين و الأخلاق هي التي يجب علينا أن ندعو إليها و نرفع شعارها في بلاد العرب و المسلمين. إنها هي تصوغ عقليتنا صياغة جديدة، و تعطي لسياستنا و اقتصادنا مقاييس جديدة، و تخلق في مجتمعنا دولة مدبّرة جديدة لا ينحصر همّها في حفظ الأمن و النظام، ولا حتى في حماية الحدود!إننا بحاجة إلى من ينادي إلى التقدميّة بضوابط و مقاييس لا بضياع و شرود. إن مشكلتنا هي فقدان الإرادة للتخطيط و العمل المنظم المدروس.”
“رفض متكلمو أهل السنة و الجماعة من الأشاعرة و الماتريدية (مثلما رفضت المعتزلة طبعاً) إيمان المقلّد، و أوجبوا معرفة الله بالعقل لا بالشرع، و روى عنهم ابن حزم الظاهري قولهم الصريح: (لا يكون مسلماً إلا من استدل).و غني عن البيان أن المتكلمين ما اتخذوا هذا الموقف إلا تأثراً بالقرآن و استلهاماً لمعانيه، ففيه نداء متواصل إلى اطراح التقليد، و نبذ العقائد المتوارثة عن حقائق هذا الوجود، كقوله تعالى: (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)، و قوله: (ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إن السمع و البصر و الفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولا). و لقد بلغ مدى أبعد من ذلك، حين شبه بالأنعام أولئك الذين عطلوا حاسهم و طاقاتهم الفكرية: (لهم قلوب لا يفقهون بها، و لهم أعين لا يبصرون بها، و لهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون.)”