عُرف الشاعر الألماني راينر ماريا ريلكه المولود بمدينة براغ التشيكية في العام 1875 منذ صباه المبكر بحساسيته المفرطة إزاء العالم المحيط به، وميله الشديد إلى العزلة والانقطاع إلى التأمل. وبعدما تأكد من عدم قدرته على الانضمام إلى حياة الجماعة قرر أن يحيا حياةً بوهيميةً متفردة عمادها الشعر والفنّ والترحال. وتناول ريلكه في أدبه الشعري والنثري موضوعات مختلفة، غنية في تفاصيلها تستند بدرجة رئيسية إلى وقائع حياته المضطربة. لكن ما يتميز به أسلوب ريلكه هو ليس فقط استعراضه للوقائع الحياتية وتجاربه الذاتية، إنما الكيفية التي عالج بها الموضوعات الإنسانية الجوهرية، وذلك عبر رؤية فلسفية عميقة غير قابلة للاندثار، ومنها موضوعات الحبّ والطفولة والحنين والأمل والكراهية والبؤس والعزلة والصداقة والموت. ولعل مفردات الحنين والموت والعزلة كانت طاغية على إبداع الشاعر والناثر في أعماله المبكرة، إثر تجارب قاسية خاضها في طفولته وصباه كوفاة شقيقته الأكبر، وخروجه من المدرسة العسكرية وطلاق والديه، على سبيل المثال. بيد أن تلك المعاناة وجدت، نثرياً، ذروتها القصوى في "يوميات مالته لاورتس بريغه" Die Aufzeichnungen des Malte Laurids Brigge وهذا بالتحديد ما أضفى عليها طابع المعاصرة وجعلها بعيدة تماماً عما هو قومي ألماني محض. وثمة ميزة أخرى تتسم بها أعمال ريلكة المبكرة المعروفة بأجوائها السوداوية المفرطة في اليأس والرعب، وهي أنها يمكن أن تتخذ منحى ساخراً أحياناً مثلما تشهد قصصه بشكل خاص.
الفنّ كمصدر للجمال
وتعود القدرة التصويرية البارعة التي تتسم بها هذه الأعمال إلى انشغال ريلكه بالفنّ المعماري وولعه بالفنون التشكيلية، لاسيما النحت. ولعلنا لا نجافي الحقيقة إذا قلنا أن ريلكه نحّات شعري أراد أن يحوّل جمادات العالم الخارجي إلى رموز نفسيه وفكرية، أي أنه أراد محاكاة العالم المستقل عن الذات بصفته مجموعة من الصور الحيّة وذلك عبر عملية التشيؤ الشعري Dinggedicht القائمة على رصد التحوّل في المناخ النفسي من خلال الإسقاط الذاتي على الشيء المستقل نفسه، أي تحويل الجمادات إلى رموز شعرية. فالشجرة لا تعني لريلكة شجرة حتى وأن كتبها على النحو، إنما الأمل أو الحبّ أو الحياة برمتها، وكذلك مع الألوان وتحولات الفصول وغيرها من الرموز الطبيعية. لكن هذه الكتابات غالباً ما تحاكي الأعمال النحتية، مهتمةً بالتفاصيل وما هو هامشي لتبعث فيه الحرارة والحياة. وقد فعل ريلكه ذلك كلّه تيمناً بالنحاتين الكبيرين الإيطالي مايكل إنجلو والفرنسي أوغسطت رودان، الذي اشتغل ريلكه سكرتيراً له بضعة شهور في باريس. ولكي ينحت ريلكه قصائده وقصصه فإنه يحاول انتزاع الأشياء من طابعا السكوني السلبي وتحويلها إلى وحدات إيقاعية وجوديّة وحسيّة، تعبّر عن الذات المحمولة خارجاً، أي أنه يقوم بعملية تطهّر ذاتيه مطّردة بغية تخليص الذات من الأزمات النفسية والتراكمات الفكرية على نحو فنّي. فيمنحُ ذلك الشيءَ المستقل الحريّةَ التامة، لكي يعبّر عن نفسه بأكبر قدر ممكن من الاستقلالية، ولكي يمنح كذلك الحريةََ التامة لنفسه، باعتباره شاعراً، لإعادة صياغة هذه القراءة الحسيّة صياغةً موضوعيةً وفنيّةً بدرجة خاصة.
كشف الذات
لشيء الوحيد الذي يمكن أن يعتبر تجاوزاً للذات المبتلية بالمعاناة عند ريلكه هو كشف هذه الذات، أي تعريتها إلى حدّ ما، ثم تجسيدها جمالياً، مثلما فعل الفيلسوف نيشته الذي تأثر به ريلكه في أعماله المبكرة. وكان الفنّان الإغريقي، والمغني الإلهي، أورفيوس، هو من أوائل الساعين إلى إعادة صياغة الذات من خلال أناشيده التي كان يسحر بها حتى الأموات ليبعث فيهم الحياة، والذي استعار ريلكه اسمه ليضعه عنواناً لآخر عمل شعري "سونيتات إلى أورفيوس" Sonette an Orpheus، التي جعل منها شاهدة شعرية على قبر الراقصة البارعة فيرا كنوب التي فارقت الحياة وهي لم تبلغ التاسعة عشرة من عمرها، والتي كانت تذكّره بشقيقته التي رحلت قبل ولادته، مما جعل الأمّ تنظر إلى ريلكه بصفته تجسيداً حيّاً لشقيقته، حتّى أنها كانت تجبره على ارتداء أزياء الفتيات قبل دخوله إلى المدرسة العسكرية.
البعد الفلسفي للشعر
كان ريلكه قد وقع في بداية حياته الأدبية تحت تأثير الفلسفة الوجودية ممثلةً بنيتشه وكيركيغارد الذي حاول ريلكه محاكاة تأملاته، فضلاً عن الكثير من الإشارات والإحالات المباشرة، بل حتى التراجم التي تناولت أفكار هذا الفيلسوف الدنماركي. بيد أن أعمال ريلكه لم تقتصر على تمثّل الفلسفة الوجودية، إنما عالجت قضايا إنسانية كبرى مثل الدين والسياسية والثورة الاشتراكية والتغيير الاجتماعي. ومن الملامح البارزة التي اتسمت بها أعماله التي وصفها الكاتب النمساوي روبرت موزيل بأنها من أعظم ما كتب باللغة الألمانية منذ القرون الوسطي، هو المسعى "الأخلاقي" الحثيث لتحويل الأدب إلى دين قائم ع