“السؤال هو هل "المستقبل المضيء" هو بالفعل مسألة مؤجلة على الدوام "هناك". فماذا لو أن الأمر عكس ذلك, لو أن هذا المستقبل يوجد هنا بين أيدينا, وأن الغشاوة والضعف اللذان يلفاننا يمنعاننا من أن نراه في أنفسنا ونجعله واقعاً ؟”
“يتخطى مثل هذا التصور حول الخطوات التنظيمية لـ "الثورة الوجودية" بشكل واضح - كما هو جلي من هذا العرض- إطار الديمقراطية البرلمانية الكلاسيكية التي استقر عليها الوضع في الدول الغربية المتقدمة والتي تتعرض لعثرات من وقت لآخر. وبما أنني أطلقت مصطلح "نظام ما بعد الشمولية" لخدمة أفكار هذه الدراسة, ربما يمكنني أن أشير إلى هذا التصور المطروح - على الأقل في الوقت الحاضر- على أنه رؤية لنظام "ما بعد الديمقراطية".”
“إن إمكانية "الثورة الوجودية" هي في حقيقة الأمر -من حيث نتائجها- عبارة عن إمكانية إعادة هيكلة المجتمع أخلاقيا, بمعنى تجديد جذري لعلاقة الإنسان بما أطلقت عليه "النظام البشري" (الذي لا يمكن أن يكون بتفويض من أية نظام سياسي). إن الأمر يتعلق بهذا المسار: خبرة وجودية جديدة, تجديد الارتباط بالعالم, الالتزام المتجدد بالمسؤولية العليا, إعادة اكتشاف العلاقة بالآخر والتضامن مع المجتمع. هذا هو المسار الذي يجب أن تسير فيه.”
“إن نظام ما بعد الشمولية وجه واحد -عنيف بصورة خاصة ويشهد عليه أصله الحقيقي- لهذا العجز الكلي للإنسان المعاصر عن أن يكون "سيد موقفه". إن "الحركة الذاتية" العالمية للحضارة التقنية, والفشل الإنساني الذي تعكسه هذه الحضارة هو بدوره أحد بدائل الفشل العام للإنسان المعاصر.”
“الجانب الوحيد الايجابي في طبيعة نظام ما بعد الشمولية وفي غياب سياسة طبيعية وضبابية تعمل على وجود فرصة في تغيير سياسي ناجز هو أنها تدفعنا إلى أن نتدبر أمورنا على خلفية ملابساتها العميقة, ونفكر في مستفبلنا في إطار رؤى طويلة المدى وشاملة للعالم الذي نحن جزء منه. إن ضرورة أن نتأكد على الدوام أن صراع الإنسان مع النظام يدور على مستوى أعمق من مستوى السياسة المباشرة, يحدد على ما يبدو وجهة هذا التفكير.”
“تكتسب "المدينة الموازية" أهميتها عندما تصبح المسؤولية متغلغلة إلى الكل ومن أجل الكل, عندما تصبح وصولاً إلى أفضل موقع لهذا التغلغل, وليس هروب من المسؤولية.”
“إن النظام القانوني بمعناه الضيق يخدم نظام ما بعد الشمولية بنفس الطريقة المباشرة. وهو لا يختلف في ذلك عن باقي المجالات الأخرى لعالم "القوانين والمحاذير".لكنه في الوقت نفسه يشير إلى طريقة هذه الخدمة في بعض مستوياته بدرجات مختلفة من الوضوح. هذه الطريقة التي تُقرّب وظيفته من وظيفة الأيدلوجية على نحو صارخ, إن لم يكن يجعل من النظام جزءاً لا يتجزأ من تلك الأيدلوجية.”
“إن الناس الذين يعيشون في كنف نظم ما بعد الشمولية يدركون جيداً أنه أهم من وجود حزب واحد أو أكثر من حزب في السلطة, وأسماء هذه الأحزاب, هو هل يمكنكم الحياة كآدميين أم لا.”
“إن الحياة السياسية بكاملها في معناها الأوسع عقيمة في المجتمعات التي تحكمها نظم ما بعد الشمولية, حيث لا توجد فرصة لأي فرد أن يتحدث في السياسة, فما بالك أن ينخرط فيها, تقوم الطقوس الأيديولوجية بملء الفجوة التي تنجم عن هذا الوضع. في مثل هذه الأوضاع يقل انشغال الناس بالسياسة, ويصير الفكر السياسي المستقل والعمل السياسي -إذا سلمنا بوجود شيء كهذا في أي صورة- أمرا غير واقعي وغير منطقي, يصبح بمثابة مجرد بعبة بعيدة كل البعد عن هموم الحياة اليومية القاسية.وبالتالي تصبح لعبة طريفة, لكن دون جدوى. فهي من ناحية أمر خيالي, ومن ناحية أخرى شديد الخطورة, نظراً للعنف الشديد الذي تلقاه أيه محاولة في الاتجاه من قبل سلطة المجتمع.”
“إن الأزمة العميقة للهوية البشرية التي سببتها الحياة "في الكذب", والحياة التي أسست عليها لها بالتأكيد بعد أخلاقي: يظهر هذا البعد كأزمة أخلاقية عميقة في المجتمع, إن الإنسان الذي سقط في منظومة القيم الإستهلاكية, وانصهر في مزيج القافلة الحضارية, ولم ينخرط في نظام الوجود بناء على شعوره بمسؤولية أعلى من مسؤوليته عن البقاء كفرد يعد إنسان منزوع الأخلاق. يعتمد النظام على هذا الإنعدام الأخلاقي ويعمقه كمخرج اجتماعي له.”
“لقد صنعت عباءة الحياة "في الكذب" من مادة غريبة: ما لم تغطى بإحكام المجتمع بأكلمه تصبح وكأنه من حجر.ولكن في اللحظة التي يخترقها أحدهم من موضع ما, عندما ينادي إنسان واحد ويقول "الملك صار عارياً", عندما يخرق لاعب واحد قواعد اللعبة وبهذا يعريها على أنها مجرد لعبة, يظهر كل شيء فجأة على غير ما هو عليه, وتظهر العباءة على أنها من ورق وتبدأ وبلا توقف في التمزق والفناء.”
“إن الحياة "في الحقيقة" ليس لها في نظم ما بعد الشمولية فقط بعد وجودي (عودة الإنسان إلى نفسه), وفكري (كشف الحقيقة كما هي), وأخلاقي (ليصبح نموذدجاً), لكن لها فضلا عن ذلك بعد سياسي.فلو أن الدعامة الرئيسية للنظام هي الحياة "في الكذب", فليس مستغرباً أن الحياة "في الحقيقة" تصبح تهديدا كبيرا له. لذلك يجب ملاحقته أكثر من أي شيء آخر.”
“طالما لم يوضع الوهم في مواجهة مع الحقيقة, فلا يظهر على أنه وهم, وطالما لا توضع الحياة "في الكذب" في مواجهة الحياة "في الحقيقة" فلا يوجد احتمال أن ينكشف زيفها. وما أن يصبح هذا الاحتمال وارداً فإن وجودها يصبح مهددا من جذوره وبالكامل. ولا يهم حجم المساحة التي تحتلها هذه الإمكانية. فإن قوتها ليست في جانبها المادي, لكن في الضوء الذي تصدره دعامات النظام والتي تنقض على اساسها الهش: فبائع الخضراوات لم يهدد تركيبة السلطة بشخصه وبقوته الحقيقية, لكن هددها بأبعاد ما فعله, وتجاوزه إياه, بما أشعه على البيئة المحيطة به - وبالطبع بالنتائج الغير محسوبة التي ستسفر انتشار هذه الأشعة.”
“توجد في داخل كل إنسان حياة بكل معانيها الوجودية:في داخل كل منا جزء من رغبة في الكرامة البشرية, والشرف الأخلاقي, والخبرات الوجودية الحرة, وكمال العالم.لكن لدى كل منا في نفس الوقت وبدرجات متفاوتة القدرة على التأقلم مع الحياة المزيفة, كلنا بطريقة ما يسقط في المادية الفاحشة والمصلحة الشخصية, في كل منا شيء من رغبة في الذوبات في جمع مجهول, ينساب معه بسعادة عبر مجرى حياة زائفة.فالأمر ليس إذن صراع بين هويتين.إنه شيء أسوأ من ذلك: إنها أزمة الهوية نفسها.”
“لقد شكل الإنسان ويشكل يوميا نظاما ذاتيا يجرده من هويته, وهذا ليس سوء فهم للتاريخ يصعب تفسيره, او انحراف لاعقلاني او نتيجة لارادة شيطانية عليا قررت لأسباب غير معروفة أن يتعذب فصيل من البشر. يمكن أن يحدث هذا, وهو جائز لأن الإنسان الحديث يمتلك سمات معينة تجعله يشكل هذا النظام أو على الأقل يتحمله. يبدو انه يحمل في طياته شيئا يعد مثل هذا النظام امتداد له أو انعكاس له ويتفق معه. يحمل شيئا يبطل كل محاولة لتحفيز "الأنا الجيدة".الإنسان مجبر على العيش في الكذب, لكن مجبر على ذلك لأنه قادر على حياة كهذه. فليس فقط النظام هو الذي يحول الإنسان ونفسه, بل الإنسان المنفصل عن نفسه هو الذي يدعم هذا النظام وكأنه مشروعه البديهي, وكأنه صورة منحطة لانحطاطه, وكانه دليلا على فشله.”
“الشريك الأساسي لهذا التورط من قبل الانسان ليس انسان آخر, لكنه النظام كنسيج يهدف ذاته. ينقسم الناس في هرم السلطة حسب درجة المسوؤلية, وليس بينها المسؤولية عن الكذب. إن الصراع بين مرام الحياة وأغراض النظام لا ينعكس في صراع بين طبقتين اجتماعيتين منفصلتين. النظرة العامة -بشكل تقريبي- تسمح بتقسيم المجتمع إلى حكام ومحكومين. هنا يكمن واحد من أهم الفروق بين نظام ما بعد الشمولية والديكتاتورية التقليدية, التي فيها يمكن رصد حدود هذا الصراع من الناحية الاجتماعية. في نظم ما بعد الشمولية هذه الحدود يصنعها في الواقع كل إنسان. حيث أن كل فردهو ضحية ودعامة. إن ما تعنيه كلمة نظام ليس النظام الذي يفرضه جماعة على الآخرين, لكنه شيء يتغلغل في المجتمع بأكمله ويشارك المجتمع في تشكيله. إنه شيء يبدو وكأنه لا يمكن الإمساك به, حيث أنه مجرد مبدأ, لكن في الواقع يمسك بالمجتمع بأكمله كعنصر هام يضمن له حياته.”
“ان الايديولوجية واحدة من اعمدة الاستقرار الخارجي لاي نظام ما بعد شمولي.هذا العمود يقف على قاعدة مزعزعة: أي على الكذب. قد تثبت جدواها فقط إن تقبل الإنسان الكذب.”
“هذا الأمر يقود بالضرورة الى ان النظرية, او بالأحرى الأيديولوجية في النهاية تتوقف -للمفارقة- عن كونها خادمة للسلطة, لكن تصبح السلطة في خدمة النظرية. وتصير الأيديولوجية وكأنها سلطة "امتلكت سلطة". تصبح هي نفسها ديكتاتور, يبدو أن النظرية نفسها, الطقس نفسه, الأيديلويجة نفسها, تقرر في أمر الشعوب وليس العكس.”
“إن تركيبة السلطة التي تحدثنا عن تقسيمها الفيزيائي فيما سبق لا يمكن لها ان تكون بدون نظام ميتافيزيقي محدد, يقوم بربط جميع حلقات هذه السلطة معا ويخضع لأسلوب موحد من "احتواء الذات", يمنحها "قواعد اللعبة", اي تنظيم وحدود وقوانين.هذا النظام الميتافيزيقي يعد اساسي, وتشترك فيه تركيبه القوة بكاملها, ونظام التواصل الذي يجعلها متكاملة, ويمكنها من التواصل داخليا, ومن نقل المعلومات والتعليمات, انه ملف "تعليمات النقل" و"اللوحات الاسترشادية" الذي يصنع لها شكلا واطارا. يعد هذا النظام الميتافيزيقي ضمانة التماسك الداخلي لتركيبة القوة الشمولية, انه "مادة لاصقة", وقاعدة وصل, وأداة النظام, بدون هذه المادة اللاصقة - التي هي تركيبة النظام - سيفنى هذا الهيكل, سيتفتت الى أشلاء, وستتبعثر ذراته التي ترعى كل منها الأخرى من خلال مصالحهم وحاجاتهم التي لا حدود لها. وبالضرورة سينهار هرم السلطة الشملوية- التي سقطت عنها المادة اللاصقة- في داخله ويصير في حالة من الانهيار المادي.”
“ان نظام ما بعد الشمولية يلاحق الانسان بمبرراته في كل خطوة يخطوها تقريبا. يلاحقه بالطبع مرتديا قفازات الأيديولوجية. فالحياة فيه متشابكة كنسيج طحلباني من الكذب والأدعاء. ان حكومة البيرقراطية تسمى حكومة الشعب, وباسم الطبقة العاملة يتم استعباد الطبقة العاملة, الإذلال المستشري للإنسان يفسر على انه تحرير كامل للإنسان, ويطلق على حجب المعلومات تداول المعلومات, والتلاعب بالقوة التحكم العام في القوة والتعسف في استعمال القوة حفظ النظام العام, وقمع الثقافة تنمية الثقافة. كما يفسر نشر التأثير الامبريالي على انه دعم المضطهدين, والحجر على حرية الرأي على انه اعلى درجات الحرية, وتزوير الانتخابات على أنه قمة الديمقراطية, ومنع حركة التفكير على أنه أفضل اللآراء العلمية العالمية, والاحتلال على انه مساعدة الأشقاء. ان السلطة حبيسة الكاذبين, لذلك عليهم ان يزوروا. يزوروا الماضي والحاضر والمستقبل كما يزرون الاحصائيات. يدعون انهم لا يملكون الآلة الشرطية الجبارة والمهيمنة. يدعون انهم لا يدعون شيء.ليس مطلوبا من الإنسان ان يصدق هذه التعمية. لكنه يجب ان يتصرف على انه يصدقها او يقبلها صاغرا, او يتعامل بصورة مقبولة مع من يتبعها.لهذا هو مجبر ان يعيش في الكذب.انه غير مضطر الى ان يصدق الكذب. يكفي ان يتقبل الحياة بكذبها ويتعايش معه. وبهذا يدعم النظام ويؤيده ويجعل من نفسه جزءا منه.”