أبي حيان التوحيدي photo

أبي حيان التوحيدي

أبو حيان علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب، وقد امتاز بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي بعد ذلك مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب، وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي بشقيها الشخصي والعام- قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله، ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم الأدباء (كتاب) مما حدا بالحموي إلى التقاط شذرات من مما ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من رد الاعتبار لهذا العالم الفذ ولو بصورة غير مباشرة.


“يا هذا ! هذا وصف غريب نأى عن وطنٍ بني بالماء والطين ، وبعد عن آلافٍ له عهدهم الخشونة واللين ، ولعله عاقرهم الكأس بين الغدران والرياض، واجتلى بعينيه محاسن الحدق المراض ، ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب ، والانقراض ، فأين أنت عن غريبٍ قد طالت غربته في وطنه ، وقل حظـه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت عن غريب ليس له سبيل إلى الأوطان ، ولا طاقة به على الاستيطان ؟ قد علاه الشحوب وهو في كن ، وغلبه الحزن حتى صار كأنه شن ( القرية الصغيرة!) .إن نطق نطق حزنان منقطعًا ،وإن سكت سكت حيران مرتدعا ، وإن قرب قرب خاضعًا ، وإن بعد بعد خاشعًا ، وإن ظهر ظهر ذليلا ، وإن توارى توارى عليلا، وإن طلب طلب واليأس غالبٌ عليه ، وإن أمسك أمسك والبلاء قاصدٌ إليه ! وإن أصبح أصبح حائل اللون من وساوس الفكر ، وإن أمسى أمسى منتهب السر من هواتك الستر ، وإن قال قال هائبًا ، وإن سكت سكت خائبًا ، قد أكله الخمول ، ومصه الذبول ، وحالفه النحول ، لا يتمنى إلا على بعضٍ من بني جنسه، حتى يفضي إليهم بكامنات نفسه، ويتعلل برؤية طلعته ، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته فينثر الدموع على صحن خده ، طالبًا الراحة من كده .وقد قيل : الغريب من جفاه الحبيب وأنا أقول بل الغريب من واصله الحبيب، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب ، بل الغريب من حاباه الشريب (من يشاركه الشرب) بل الغريب من نودي من قريب ، بل الغريب من هو في غربته غريب ....يا هذا الغريب من نطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، ودل عنوانه على الفتنة عقيب الفتنة ، وبانت حقيقته فيه بين الفينة حد الفينة . الغريب من إن حضر كان غائبًا ، وإن غاب كان حاضرًا ، الغريب من إن رأيته لم تعرفه ، وإن لم تره تستعرفه ، أما سمعت القائل حين قال : بم التعلل لا أهلٌ ولا وطن …. ولا نديمٌ ولا أهل ولا سكـن !! ( أبو الطيب ) ........ وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر ، ولا رسم له فيشهر ، ولا طي له فينشر ! ولا عذر له فيعذر ولا عيب له فيستر . يا هـذا ! الغريب من إذا ذَكَر الحق هُجِر ، وإذا دعا إلى الحق زُجر. الغريب من إذا أسنَد كُذَّب ، وإذا تظاهر عُذِب ، الغريب من إذا امتار لم يمر ، وإذا قعد لم يزر ، يا رحمتا للغريب ، طال سفره من غير قدوم وطال بلاؤه من غير ذنب ، واشتد ضرره من غير تقصير ، وعظم عناؤه من غير جدوى !الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله ، وإذا رأوه لم يدوروا حوله ، الغريب من إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف ، و إن كتم أكمده الحزن واللهف . الغريب من إذا أقبل لم يُوسع له ، وإذا أعرض لم يسئل عنه، الغريب من إذا سأل لم يعط ، وإن سكت لم يُبدأ ، الغريب من إذا عطس لم يُشَّمت ، وإذا مرض لم يفتقد ، الغريب من إذا زار أغلق دونه الباب، وإن استأذن لم يرفع له الحجاب .الغريب ”
أبي حيان التوحيدي
Read more