“يذهب المهاجر. إلى أين؟ يعود المهاجر. إلى أين؟ ما من نقطة واضحة، لا في المكان ولا في الزمان، ليس هناك ميزان جاهز لقياس حجم الخسائر. الخسارة الغامضة تكون أقسى دائمًا. خسارة هي مزيج من البشر والمشاهد البصرية واللحظات العاطفية والأوهام والتداعيات والأغاني والتأملات الصامتة والأسرار العائلية وعواصف القسوة والشقاء والفقر ورائحة التراب وحفيف أوراق أشجار اليوكالبتوس والمشي على ضفاف دجلة والمقاهي والأصدقاء ومواء القطط العراقية و(الله بالخير) التي يسمعها العراقي ترحيبًا به والشاي المعتّق، كما لو أنه استورد لتوّه، وحياء العراقيات الذي يرسم على الحجر شفتين والنوم على سطح الدار وظلال الأزقة القديمة وصبر الأمهات في حروب لا فرق فيها بين ابن وآخر. المهاجر لا يفكر إلا في خسائره وهو الذاهب إلى جهة يعرف أنه سيكون آمنًا فيها. في لحظة الاطمئنان تلك لا يكفي الشعور بالأمان، يتذكر المهاجر حينها أن هناك شيئًا ما لا يزال مفقودًا في حياته، لو سئل عنه فإنه سيعجز عن تسميته.”
“ بعد خمسين سنة من العشرة مع وجهه لا يعثر المرء إلا على الوجه الذي يراه في المرآة. عليه حينها أن يصدق أن ذلك الوجه هو وجهه، ولكن الحقيقة لا تقول ذلك دائماً. لا نحتاج دائماً إلى مثل هذه العقوبة إلا مضطرين. في حالة المرض مثلاً. المرآة تكذب. لكني أعثر على وجهي في عيني صديق لم ألتقه منذ زمن طويل، أو صديق لم ألتقه على الإطلاق! ”
“ هناك أماكن لا يقوى المرء على الالتفات إليها ولا على الاقامة فيها.أماكن لم تصنع قدرها السيء بقد ما وجدت نفسها تقيم مكرهة في قلب اللعنة ”
“إن حياتنا لا تتشكل حسب مشاعرنا وأهوئنا .. إن هناك قيوداً مادية تحتم سيرنا في اتجاهات لا تملك مشاعرنا تغييرها ..رغم أننا في نشوتنا وهيامنا نجزم لأنفسنا أنه يكفي أن نشعر وأن يبادلنا الطرف الآخر الشعور حتى يهون كل أمر ويضحي غير ذلك من الماديات المفروضة علينا تفاهات لا تدخل في حساب رسمنا لمستقبلنا ولا تؤثر على تنفيذ مشروعات أمانينا وخطط أحلامنا.”
“ منذ سنوات وأنا أقف في ساحة المودعين ملوّحاً بيدي. سافر أصدقائي كلهم فاحترفتُ كتابة الرسائل. بسبب تلك الرسائل صارت حياتي متاحة لكل أولئك المسافرين. كانت حياتي هي مجموعة متلاحقة من القصاصات التي كنت ألقيها في صناديق البريد لتأخذ طريقها إلى مدن مختلفة من العالم.. " لو انك ذهبت أبعد، لو ألقيت خطوة هناك لوهبت نفسك نوعاً من خيال الغريب" .”
“هو لا يعرف في غمرة غفلته الهانئة هذه، أنه سوف يستعيد سعادة تلك اللحظة لاحقاً ويحدق في أعماق ذاته، بعدما يصل به عمره إلى الأربعين.العشرونَ سنُّ الحجبِ بالفتوة، والأربعون بدء الكشف والنبوَّة. لو انتهك له الحجاب الآن لأفاق من أوهامه وكف عن التحليق بأجنحة الأحلام.”
“إنه لا بأس يا سيدي في أن يصيح مفكر فرنسي كبير صيحة الغضب من العلم الحديث وما تمخض عنه من آلات، أقول إنه لا بأس في أن يصيح صيحة غضبه تلك في أرجاء الغرب، بعد أن شبع ذلك الغرب علماً وأرتوى بالعلم، لأنه إذا كان ذلك الغرب قد شطح بمعلومه وآلاته حتى أنحرف عن جادة الصواب، فبدل أن ينتج للناس خبزاً أخذ ينتج لهم سلاحاً فتاكاً، فإنه ليس محالاً عليه أن يعود على هدى الصيحة الغاضبة فيلتزم جادة الحق. بعلومه تلك وآلاته، وذلك بأن يبقى على ما ينفع الناس، ويمحو ما يؤذيهم، ذلك كله يمكن للغرب ما دام العلم بين يديه يصنع به ما استطاع أن يصنع، لكن البأس كل البأس يا سيدي في أن توجه مثل تلك الصيحة الغاضبة في بلد ما يزال عند ألف باء العلم والصناعة، لأنك إذا أشعت في نفوس أهله مثل ذلك الترف العقلي، وأعني به التشكك في حضارة العلم والصناعة – التي هي حضارة هذا العصر – فكأنك أشعت في صدورهم دعوة إلى الجمود، لا بل دعوة إلى العودة إلى الوراء، حيث لا علوم ولا صناعة ولا أجهزة ولا آلات، ولن يحدث لهم عندئذ إلا أن تزداد حاجتهم إلى الاعتماد على الغرب في كل ما ينتجه من علم، وما يصنعه من آلات.”