“إن كلمة الحق في العقيدة لا ينبغي أن تجمجم! إنها يجب أن تبلغ كاملة فاصلة وليقل من شاء من المعارضين لها كيف شاء وليفعل من شاء من أعدائها ما يفعل فإن كلمة الحق في العقيدة لا تتملق الأهواء ولا تراعي مواقع الرغبات إنما تراعي أن تصدع حتى تصل إلى القلوب في قوة وفي نفاذ.”
“ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير.. لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة. هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس. ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة، وأوسع من هذه الأرض، وأبقى من ذلك الفناء.. إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة. وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد. والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه ! ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الأرض الصغير. مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال. يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الواقع الصغير. ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد. وفي ملك الآخرة الواسع العريض. وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة.. وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها...”
“إنه مشهد انتصار الحق و الإيمان في واقع الحياة المشهود، بعد انتصارهما في عالم الفكرة و العقيدة. فلقد مضى السياق بانتصار آية العصا على السحر؛ و انتصار العقيدة في قلوب السحرة على الاحتراف؛ و انتصار الإيمان في قلوبهم على الرغب و الرهب، و التهديد و الوعيد. فالآن ينتصر الحق على الباطل و الهدى على الضلال، و الإيمان على الطغيان في الواقع المشهود. و النصر الأخير مرتبط بالنصر الأول. فما يتحقق النصر في عالم الواقع إلا بعد تمامه في عالم الضمير؛ و ما يستعلي أصحاب الحق في الظاهر إلا بعد أن يستعلوا بالحق في الباطن.. إن للحق و الإيمان حقيقة متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية. فأما إذا ظل الإيمان مظهراً لم يتجسم في القلب، و الحق شعاراً لا ينبع من الضمير، فإن الطغيان و الباطل قد يغلبان، لأنهما يملكان قوة ماذية حقيقية لا مقابل لها و لا كفاء في مظهر الحق و الإيمان..يجب أن تتحقق حقيقة الإيمان في النفس و حقيقة الحق في القلب؛ فتصبحا أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل و يصول بها الطغيان..”
“إنها لحكمة الله أن تقف العقيدة مجردة من الزينة والطلاء عاطلة من عوامل الإغراء ، لا قربى من حاكم ، ولا اعتزاز بسلطان ، ولا هتاف بلذة ، ولا دغدغة لغريزة ، وإنما هو الجهد والمشقة والجهاد والاستشهاد . . ليقبل عليها من يقبل ، وهو على يقين من نفسه أنه يريدها لذاتها خالصة لله من دون الناس ، ومن دون ما تواضعوا عليه من قيم ومغريات ، ولينصرف عنها من يبتغي المطامع والمنافع ، ومن يشتهي الزينة والأبهة ، ومن يطلب المال والمتاع ، ومن يقيم لاعتبارات الناس وزنا حين تخف في ميزان الله . إن المؤمن لا يستمد قيمه وتصوراته وموازينه من الناس حتى يأسى على تقدير الناس ، إنما يستمدها من رب الناس وهو حسبه وكافيه . .إنه لا يستمدها من شهوات الخلق حتى يتأرجح مع شهوات الخلق ، وإنما يستمدها من ميزان الحق الثابت الذي لا يتأرجح ولا يميل . . إنه لا يتلقاها من هذا العالم الفاني المحدود ، وإنما تنبثق في ضميره من ينابيع الوجود . . فأنى يجد في نفسه وهنا أو يجد في قلبه حزنا . وهو موصول برب الناس وميزان الحق وينابيع الوجود ؟ إنه على الحق . . فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ وليكن للضلال سلطانه ، وليكن له هيله وهيلمانه ، ولتكن معه جموعه وجماهيره . . إن هذا لا يغير من الحق شيئا ، إنه على الحق وليس بعد الحق إلا الضلال ، ولن يختار مؤمن الضلال على الحق - وهو مؤمن - ولن يعدل بالحق الضلال كائنة ما كانت الملابسات والأحوال . . { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد }.”
“إن الحق في هذا القرآن لبين؛ و إن حجة هذا الدين لواضحة، فما يتخلف عنه أحد يعلمه إلا أن يكون الهوى هو الذي يصده. و إنهما لطريقان لا ثالث لهما: إما إخلاص للحق و خلوص من الهوى، و عندئذ لا بد من الإيمان و التسليم. و إما مماراة في الحق و اتباع للهوى فهو التكذيب و الشقاق. و لا حجة من غموض في العقيدة، أو ضعف في الحجة، أو نقص في الدليل. كما يدعي أصحاب الهوى المغرضون.”
“إن جَوْعة الجسد تلح على صاحبها ليسدّها أولا، هذا مُسلّم به، ولكنها بعد أن تهدأ تتحرك في الكائن الإنساني جوعة أخرى لا يسدها الطعام ولا يرويها الشراب ولا يكفيها الكساء ولا تسكنها كل لذائذ الجسم وشهواته. إنها جوعة من نوع آخر لا بد لها من هدف إنساني أكبر من الملذات، ومن صلة بالكون أشمل من البيئة، ومن عقيدة في قوة أكبر من البشرية، ومن مستقبل دائم النمو لا يقف عند حد محدود. فإذا اطّلعَت الإنسانية على نظام يحمل مثل هذه الفكرة، ويتضمن مثل هذه العقيدة، وفي الوقت ذاته يضمن لها عدالة اجتماعية دائمة متجددة لا تقف عند تسويد طبقة على طبقة ولا عند حدود الاكتفاء المادي، إنما تدع الحياة متجددة أبدا مترقية أبدا، متصلة بعد كل هذا بالسماء، إذا اطلعت الإنسانية على نظام كهذا فذلك حلمها الدائم الذي لا يدركه الفساد. وهذا ما يجعلنا نعتقد بقوة أن المستقبل في أرض الإسلام للإسلام، وأن المستقبل في الأرض كلها كذلك للإسلام.”
“أما المجتمع المسيحي - إذا صح هذا التعبير - فالمسيحية لا تحكمه، والنظم فيه لا تعتمد على العقيدة، إنما تعتمد أساسا على القوانين الوضعية، حيث تقف العقيدة في عزلة عن المجتمع، تحاول أن تعمل في ضمير الفرد وحده، وبديهي أن قوة النظام الاجتماعي لا تمهل الفرد ليستمع إلى صوت الضمير ما لم يكن هذا النظام ذاته قائما على العقيدة التي تعمر الضمير.”