“و أتيح لأتباع التابعين أن يسمعوا فتاوى المفتين من الصحابة و التابعين، فهيأ ذلك الفرصة لهم ليدلوا ببعض آرائهم اجتهاداً و استنباطاً، ولا سيما في القضاء و الفتوى. ثم كان من العوامل التي أعانت القوم على تكوين المذاهب الفقهية تدوين القرآن و السنة، و جمع فقه الصحابة و فتاواهم في الواقع، و تصنيف طائفة غير قليلة من العلوم التي تقوٍّي ملكات الاجتهاد و الاستنباط و القياس، كعلوم اللغة العربية، و تفسير القرآن، و أدب المناظرة، و علم الكلام. و زاد من ذلك كله تشجيع الخلفاء للحركة الفقهية، و عنايتهم بمجالس البحث و النظر، و رغبة الكثيرين منهم في الجدل العلمي الدقيق. نتيجة لتلك العوامل نشأت المذاهب الفقهية، و كان منها المذاهب الفردية التي انقرضت و لم يكتب لها البقاء، و المذاهب الجماعية التي كونت مدارس و وضعت مناهج للبحث التشريعي في ضوء مصادر التشريع.”
“لو احتوى القرآن و السنة معاً على كل شئ فى التشريع الإسلامى لما احتاج المسلمون إلى أقوال الخلفاء الراشدين و غيرهم من الصحابة ثم التابعين. و لو كانت هذه المصادر الثلاثة جميعها جميعها كافية لما احتاج الإسلام إلى قيام المذاهب الفقهية المتعددة سواء الأربعة السائدة و المذاهب قليلة الانتشار و المذاهب العديدة التى انقرضت ،،،”
“إذا كنا أعلم بأمور دنيانا من الرسول نفسه، أفلا نكون أعلم أيضاً من الصحابة و التابعين و الفقهاء و العلماء الذين انقضي على آرائهم و حلولهم و إجاباتهم ما يزيد على ألف من السنين تطورت فيها الإنسانية تطوراً عظيماً و تغيرت تغيراً بعيداً؟!!! ،،،”
“إذا قال العلماء أن الأمة هي مصدر السيادة فلا تعارض بين هذا القول و بين القول بأن القرآن الكريم و السنة النبوية هما مصدر التشريع، فإن الأمة هي التي تفهم الكتاب و السنة و تعمل بهما، و تنظر في أحوالها لترى مواضع التطبيق و مواضع الوقف و التعديل و تقر الإمام على ما يأمر به من أحكام أو تأباه”
“فالقرآن لا يدركه حق إدراكه من يعيش خالي البال من مكان الجهد و الجهاد لاستئناف حياة إسلامية حقيقية, و من معاناة هذا الأمر العسير الشاق و جرائره و تضحياته و آلامه, و معاناة المشاعر المختلفة التي تصاحب تلك المكابدة في عالم الواقع, في مواجهة الجاهلية في أي زمان.إن المسألة -في إدراك مدلولات هذا القرآن و إيحاءاته- ليست هي فهم ألفاظه و عباراته, ليست هي -تفسير القرآن- كما اعتدنا أن نقول!!المسألة ليست هذه, إنما استعداد النفس برصيد من المشاعر و المدركات و التجارب التي صاحبت نزوله, و صحبت حياة الجماعة المسلمة و هي تتلقاه في خضم المعترك.. معترك الجهاد.. جهاد النفس و جهاد الناس, جهاد الشهوات و جهاد الأعداء.و الذين يعانون اليوم و غدا مثل هذه الملابسات, هم الذين يدركون معاني القرآن و إيحاءاته, و هم الذين يتذوقون حقائق التصور الإسلامي كما جاء بها القرآن, لأن لها رصيدا حاضرا في مشاعرهم و تجاربهم , يتلقونها به و يدركونها علي ضوئه.. و هم قليل.”
“و حين تجول العين و القلب في مصارع القرون. و حين تطالع العين آثارهم و مساكنهم عن كثب، و حين يتملى الخيال الدور و قد خلت من أهلها الأول؛ و يتصور شخوصهم الذاهبة، و أشباحهم الهاربة، و حركاتهم و سكناتهم، و خواطرهم و أحلامهم، و همومهم و آمالهم.. حين يتأمل هذا الحشد من الأشباح و الصور و الانفعالات و المشاعر.. ثم يفتح عينه فلا يرى من ذلك كله شيئاً إلا الفراغ و الخواء.. عندئذ يستيقظ للهوة التي تفغر فاها لتبتلع الحاضر كما ابتلعت الغابر. و عندئذ يدرك يد القدرة التي أخذت القرون الأولى و هي قادرة على أن تأخذ ما يليها. و عندئذ يعي معنى الإنذار، و العبرة أمامه معروضة للأنظار. فما لهؤلاء القوم لا يهتدون و في مصارع القرون ما يهدي أولى الألباب؟”