“الكتل الدولية، فى كل فترة من الفترات، لو استقرأنا ذلك نلمح بأن الله سبحانه وتعالى لم يسلط على البشرية ظالما واحدا إلا كان هناك ظالم يواجهه ويدافعه.. فمن خلال الخصومات العالمية، والظلم العالمى، والمواجهات العالمية، يمكن أن تفسح فرج إذا أحسنا التعامل بما أسميناه: سنة المدافعة.. هذا معنى جديد، ومعنى صحيح، ويستطيع الإسلاميون فى هذا العصر أن يستغلوا ما بين الجبهات المتصارعة فى العالم من فروق ومن نقائض اجتماعية وسياسية لكى يظفروا بحق الحياة أولا، ولكى يعرضوا أيضا ما عندهم، ويعرف ما فيه من خير.. وأخيرا، لكى يستطيعوا أن يستردوا ما فقدوا من مساحة مكانية فى الاستعمار، وما أصابهم من نكبات اجتماعية وسياسية كثيرة فى الهزائم التى لحقت بهم، ويستعيدوا ما فاتهم.. ممكن من خلال هذا كله.. لكن هذا يحتاج فعلا إلى أن الذى يحسن الاستغلال يجمع بين أمرين : بين الإخلاص العميق للعقيدة والمبدأ، والذكاء العميق أيضا الذى يستطيع به أن يفتق الحيل حتى يصل إلى ما يريد.. وإلا فى عصر الأذكياء، لا يستطيع التعامل مع سنة المدافعة أصلا، وإذا لم يكن على هذا القدر من الذكاء. هذا صحيح، وأخشى أن أقول إن غيرنا طبق هذا. ولعل اليهود استطاعوا أن يستفيدوا من سنة المدافعة أكثر منا..”
“على الإنسان أن يكون على استعداد دائم لكى يتحمل تبعات الدفاع عن معتقده وعن سيرته ومسلكه وقيمه.. لكن كيف سيكون لون هذا الاختبار؟ لا ندرى.. الأمر الثانى: أن هذا التدافع هو طبيعة الحياة الفردية والاجتماعية، بمعنى أنه فى داخل الجسم البشرى، تفرض المناعة نفسها عندما تدخل جراثيم غازية، ويبدأ القتال حتى يبقى الجسم حيا.. الحياة الإنسانية، لابد فيها من هذا التدافع. هذا اللون من التدافع..ربما تنشط أجهزة الإيمان وتتحرك فيه قواه الداخلية إذا كانت فاترة عندما يشعر بالتحدى، ويكون هذا سببا فى إمداده بحياة جديدة.. وهنا سنن الله الكونية التى يجب أن يخضع لها المؤمنون والكافرون: أن الحياة فيها هذا التصادم المستمر بين قوى ومبادئ مختلفة.. وهكذا الحياة.. يحاول الكفر أن يفرض نفسه، فتنشط قوى الإيمان لكى تبقى.. فيبقى الإيمان بعد أن نمت قواه بضغط الكافرين عليه.. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) هذا التدافع الحضارى، جزء من الاختبار الإلهى، وجزء من تمكين الخير من أن تزداد صلابته فى مواجهة الشر.”
“وما نزعم أن كل منتم إلى الدين يحرز ما يراد له من أنصبة الكمال، وإنما نؤكد أن الدين يستهدف الكمال النفسى لأتباعه قاطبة، وأنه كالمستشفى يقبل كل بشر، ويتولى علاجه بشتى الأدوية حتى يبرأ من علله، وتتم له الصحة الروحية المنشودة.والناس يتفاوتون فى حظوظهم من العافية يزودهم بها الدين بيد أن من رفض هذا العلاج الحتم، وأبى إلا البقاء بأدوائه طرد، وسدت فى وجهه أبواب الوصول إلى الله.”
“إن الاغترار بالعلم رذيلة تسقط قيمة العمل، ولو أن أحدا طالب الله أن يقربه إليه، أو أن يجزل له المثوبة، ناظرا فى ذلك إلى ما بذل من جهد ما استحق عند الله شيئا طائلا.والواجب أن يتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره، موقن بأن حق الله عليه أربى من أن يقوم بذرة منه، وأنه إذا لم يتغمده الله برحمته هلك.هبك بذلت نفسك، ومالك له...أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال…؟ فإذا أدخلك الجنة ـ بعد ـ ألا يكون متفضلا؟ وانظر إلى سلسلة الأعمال التى تؤديها خلال فترة المحيا على هذه الأرض، كم يكتنفها من علل النفس وآفات التقصير؟ إنها لو كانت أعمال غيرك فعرضت عليك أنت ما قبلتها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!!إن المؤمن يعمل، ولكنه لا يتطاول بعمله أبدا.”
“من المؤسف أن بعض الناس يقع على السيئة فى سلوك شخص ما فيقيم الدنيا ويقعدها من أجلها ، ثم يعمى أو يتعامى عما تمتلئ به حياة هذا الشخص من أفعال حسان وشمائل كرام”
“فى الخطاب الموجه للسلطان، هل للفرد فيه نصيب؟ أنا أقول فيه نصيب ـ من وجهة نظرى ـ ليس نصيبا تطبيقيا تنفيذيا.. وقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله.. أنا كفرد، مخاطب فيه أيضا، لكن ما هى حدود الخطاب بالنسبة لى؟ حدود الخطاب بالنسبة للحاكم هى إنفاذ الأحكام، لأن الأمر فى وسعه.. أما أنا، طالما ليس فى وسعى إنفاذ الأحكام، فنصيبى من الخطاب أن أعمل، وأن أجتهد فى إيجاد السلطة الغائبة، ومعاونة الحاكم المسلم ـ إذا كان موجودا ـ فى إنفاذ الأحكام. إذا كان عندنا للقاضى شروطه وصفاته ـ كما هو معروف ـ وللقضية المقضى بها، وللشهود والبينات والقرائن مواصفات أيضا، وهو باب طويل قد لا يصل إليه إلا نماذج معينة من. الناس، فكيف يمكن أن نسلم مثل هذه القضية لناس غير مؤهلين لها من الرّعاع، فتنقلب الحياة الإسلامية إلى لون من شريعة الغاب، والتناقضات، والاضطراب، والفوضى، وما إلى ذلك.. أنا أردت من كلمة 'الخطاب القرآنى للإنسان ' أن لكل إنسان نصيبه من هذا الخطاب.. الحاكم له نصيبه، والفرد له نصيبه”
“أذكر أننى تجولت فى مصانع السكر، ورأيت الأنابيب الطافحة بالعصير، والأفران المليئة بالوقود، والآلات التى تغطى مساحة شاسعة من الأرض، لقد قلبت البصر هنا وهنالك ثم قلت: سبحان الله ! إن بطن نحلة صغيرة يؤدى هذه الوظيفة .. وظيفة صنع السكر دون كل تلك الأجهزة الدوارة والضجيج العالى ! وخيل إليّ أن المخترعات البشرية لا تعدو أن تكون إشارة ذكية إلى ما يتم فى الكون بالفعل من عجائب دون وسائط معقدة وأدوات كثيرة . ولو أن البشر أرادوا بناء مصنع للف الحبات النضيدة فى سنبلة قمح بالقشرة التى تحفظ لبابها لاحتاج الأمر إلى حجرة كبيرة تحت كل عود ! لكن ذلك يحدث فى الطبيعة فى صمت وتواضع ! والمقارنة التى عقدناها هنا تجاوزنا فيها كثيراً، فإن الإنسان المخترع هو بعض ما صنع الخلاق، والمواهب الخصبة فيه بعض ما أفاء الله عليه .. وكأنما أراد الله الجليل أن يعرف ذاته وعظمته للإنسان الذى أنشأه، فهداه إلى بعض المخترعات ؛ ليدرك مما بذل فيها كيف أن الكون مشحون بما يشهد للخالق بالاقتدار والمجد . .. إن ميلاد برتقالة على شجرة أروع من ميلاد “ سيارة “ من مصنع سيارات يحتل ميلاً مربعاً من سطح الأرض . ولكن الناس ألفوا أن ينظروا ببرود أو غباء إلى البدائع لأنها من صنع الله، ولو باشروا هم أنفسهم ذرة من ذلك ما انقطع لهم ادعاء ولا ضجيج .. إننى عرفت الله بالنظر الواعى إلى نفسى وإلى ما يحيط بى، وخامرنى شعور بجلاله وعلوه وأنا أتابع سننه فى الحياة والأحياء . وبدا لى أن أستمع إلى ربى فى الوحى الذى أنزله .. إذ لا بد أن يكون هذا الوحى حديثاً ناضجاً بما ينبغى له من إعزاز وحمد ! كان أقرب وحى إلى هو القرآن الكريم لأننى مسلم، فلما تلوته وجدت التطابق مبيناً بين عظمة الله فى قوله، وعظمته فى عمله . سمعته يقول: “ الله خالق كل شىء، وهو على كل شىء وكيل، له مقاليد السموات والأرض .. “ [الزمر: 62، 63] “ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض الأرحام وما تزداد، وكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال .. “ [الرعد: 8، 9]“ الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً “ [ غافر: 61 ] “ الله الذى جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم “ [ غافر: 64 ]“ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم، ذلك الله ربكم، لا إله إلا هو خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير “ [ الأنعام: 101، 102 ]وآيات أخرى كثيرة كثيرة، كلها شواهد على أن ما وقر فى نفسى عن الله بطريق العقل قد أيده النقل تأييداً مطلقاً، وجعلنى أستريح إلى الإسلام فكراً وضميراً .”