“وقد تم ولا شك ابعاد الدين عن السلطة لدى تكوين الدول العربية التي تبنت بشكل عام والى حد كبير المبادئ والقوانين الوضعية الا فيما يتعلق بالحقوق الشخصية. لكن بقدر ما عجزت الفكرة القومية عن انشاء ذاتية ووعي جديدين دهريين جماعيين جاء هذا الابعاد بنتيجة معاكسة هي تعميق دور الدين في السياسة ولان عدم المساواة زاد ولم يتراجع, ولان الظلم والاستبداد تعاظم ولم يندثر, ولان الثقافة الحديثة رفعت الى السلطة فئة قليلة وجديدة وابعدت الى الهامش كل الجماعات الاخرى, اخذت السياسة الوضعية ذاتها تستنفر الدين وتعتمد عليه. لم يعد الدين هو السياسة التي تطلب العدل والاعتدال والتسامح والاخوة, ولكن السياسة التي اخذت تتغذى بالنزاع والصراع هي التي بدأت تستخدم الدين وتؤسس للآلية الطائفية.”
“هنا نجد اساس المشكلة الطائفية. فالطائفية ليست الدين ولا التدين. وانما هي بعكس ذلك تماما اخضاع الدين لمصالح السياسة الدنيا, سياسة حب البقاء والمصلحة الذاتية والتطور على حساب الجماعات الاخرى.ومن الجدير بالذكر ان اكثر الناس عداء للصهيونية التي هي الطائفية المدفوعة الى حدودها القصوى كانوا وما زالوا من المتدينين اليهود الفعليين الذين رفضوا الدخول في السياسة الدنيوية. بينما اكثر الناس صهيونية هم الصهيونيون المتدينون الذين ينطوي شعورهم على نبع لا ينضب من العداء للأديان الاخرى ومن الانغلاق على الذات ورفض الاعتراف بالتاميز للآخرين.”
“وبقدر ما ارتبطت العلمانية بالسلطة, هذه السلطة التي بقدر علمانيتها كانت ترتبط ايضا بالاجنبي, نزلت النزعة الدينية الى المعارضة. وبقدر ما ارتفعت الاوساط الاجتماعية التي تتبنى العلمانية في المرتبة الطبقية, نزل الدين الذي كان حامي السلطة في الماضي ضد الهرطقات العامية الى الشارع الشعبي.لكن هذه المعارضة ستبقى سلبية عنيدة وقاصرة معا بسبب فقدانها لنظرية حية ومتجددة تستجيب لمتطلبات العصر والصراع الاجتماعي الحديث.”
“جاء فصل الدين عن الدولة في البلاد الاسلامية اذن على يدي الدولة ذاتها قبل ان تتبناه النخب المحلية الحديثة وتدفع بجوانبه الفلسفية. وظهر لهذا السبب ايضا كاستمرار وتطوير لسياسة فصل الجمهور المتزايد عن السلطة وتحرير يد الدولة من سلطة الدين, آخر مرجع شعبي ووسيلة الضغط الوحيد بيد المعدمين من السلطة والعلم.”
“تفترض الدولة القومية ان للجماعة ذات الثقافة المتميزة روحا خاصة عميقة تموت ان لم تجد تعبيرها السياسي المستقل. وقد كان هذا رد فعل طبيعي ضد الاستبداد الذي اخذت تفرزه الامبراطوريات ذاتها. ونريد هنا ان نميز بين مفهومين للأمة غالبا ما يثير الخلط بينهما التشويش السياسي.المفهوم الاول هو الذي يربط بين الجماعة الثقافية والجنسية المتميزة وبين قيام دولة مرتبطة بها جغرافيا, اما المفهوم الآخر الثاني فيقصد بالدولة القومية الدولة التي تعبر عن مصالح الجماعة او الجماعات التي تتكون منها, فتكون الدولة القومية عندما لا تمثل احتكار فئة اجتماعية للسلطة ضد الفئات الاخرى.”
“فمع الزمن وتطور البنيات الحديثة للجماعات الاسلامية برزت اكثر فاكثر الخصائص القومية في الاقاليم الاسلامية واصبحت عاملا اساسيا مكونا للشخصية وللوعي المحلي. كما زاد تأثير الدهرية نفوذا لدى الطبقات العليا والوسطى مع تناقص فاعلية الاعتقادات الدينية وتأثيرها على مجرى الحياة اليومية والانتاج. ونتجت عن ذلك هوة بين الانتماء الديني والانتماء الجنسي. وهناك الكثير من المسلمين الذين لا يتعرفون على انفسهم في الثقافة الاسلامية اليوم الا بشكل سطحي.وهذا نتيجة توسع انتشار الثقافة الغربية الحديثة وبسبب السياسة الثقافية التي بدأت تمارسها الدولة الاسلامية والعربية منذ القرن التاسع عشر.”
“وتبدو لنا فكرة الحرية اليوم كشعار شديد الغموض ومعناه غير جلي. ففي الشرق كما في الغرب يمتشق القمع حرابا ملونة بدم الحرية, فمنها السياسية ومنها الاقتصادية ومنها الفكرية. والحرية التي لم تعد تعني شيئا كثيرا اليوم على صعيد السياسة اليومية للانظمة هي التي يسمح بذكرها كل نظام ويستمد شرعيته منها. كذلك كان الدين, كمنبع للقيم الانسانية والاخلاقية التي لا يمكن لسلطة ان تحظى على الشرعية بدون التقرب منها.”