“بقدر ما خلقت الدولة الحديثة الجنسية اغلبية اجتماعية مستبعدة من السلطة, دفعت هذه الاغلبية الى البحث عن وحدتها خارج الدولة الحديثة, اي في الدين. ولاول مرة في التاريخ تظهر اليوم امكانية نشوء دولة جنسية (قومية) اسلامية. اول مرة لان الدولة الاسلامية القديمة كانت في الواقع دولة امبراطورية تجمع مختلف الاجناس وكان الاجماع الديني وسيلة لتحقيق اجماع سياسي, اما الآن فان الاجماع السياسي ووحدة فئات وطبقات الامة هو الذي يفرض نفسه كقاعدة للاجماع الديني, اي لتحقيق الهوية الثقافية وصيانتها. الشرعية الحقيقية الاساسية لهذه الدولة هي اذن في معاداتها للتغريب وللنفوذ الاجنبي وضياع الهوية, وهذا ما يجعلها تفقد القدرة على بناء هوية جديدة, اي واقعة اجتماعية جديدة لا يمكن تحقيقها الا في اخضاع الماهية للوجود, وبلورة اجماع سياسي. وما دام من غير الممكن الوصول الى هذا الاجماع فان اثارة مسألة الاقليات الدينية لا بد وان تتدعم بمسألة الاقليات الاقوامية ايضا. ان ما سيميز المرحلة القادمة هو فقدان الاجماع الثقافي والسياسي معا, وهذا يعني قدوم مرحلة من الصراع الاجتماعي والثقافي والسياسي العنيف والدائم حتى تخرج الى الوجود حقيقة جديدة: نمط جديد لتنظيم العلاقات الاجتماعية ولتوزيع الثروة.”
“لكن هذه المطابقة الثقافية التي تتولد كمسعى لتحقيق اجماع قومي من نمط ثقافي ليست الاجماع الديني الذي كانت تعرفه الدولة التقليدية .. فالمطابقة لا تحدث الا في اطار الدولة الحديثة كعملية اعادة تثمير سياسي للاجماع الديني الماضي. لان نشوؤ الدولة الحديثة يحطم اساسا قاعدة الاجماع القومي الثقافي القائم على استقلالية المجتمع المدني وهامشية الدولة. لذلك تجعل المطابقة التعصب بينما يقوم الاجماع الديني على وجود اغلبية اجتماعية ثقافية, ويقبل الاختلاف والاجتهاد ويرفض التماثل والسديمية. وهو اجماع قابل للتغير والتبدل مع تغير الظروف. ولا ينكص الدين الى حالة تعصبية الا عندما يؤدي التطور الاقتصادي والتفاوت الشديد بين الطبقات الى تحطيم وحدة العقيدة والتهديد بفقدان القدرة على انجاب اجماع قومي ثقافي. عندئد يغلق الاجتهاد وتحاول الجماعة ان تحفظ مظاهر الاجماع دون ان تصل الى تحقيقه فعلا. وعند ذلك تبدأ حقبة الاستبداد الحقيقي وتظهر امكانية تكوين سلطة مطلقة وفردية خارجة عن رقابة الجماعة والعلماء معا.”
“لا بد من التخلي عن الاعتقاد السائد الذي يرجع الطائفية الى التمايز الثقافي او الديني الموجود في مجتمع من المجتمعات. فهذا التمايز الذي يوجد في كل البلدان يمكن ان يكون اساسا للغنى الثقافي والانصهار كما يمكن ان يكون وسيللة للتفتت. واذا بقينا على هذا الاعتقاد السائد اضطررنا الى البحث عن حلول للمشكلة على المستوى الثقافي وحده وهنا لن تجد اي مخرج على الاطلاق.فالطائفة الاكبر تميل الى الاعتقاد ان تصفية التميزات الثقافية هو شرط الوصول الى اجماع يخلق الوحدة والانصهار. وتكمن وراء ذلك فكرة ان فقدان الاجماع السياسي مصدره غياب اجماع فكري او ديني بينما العكس تماما هو الصحيح. والبعض يمكن ان يفكر ان هذا وحده يمكن ان يساعدنا على ان ننتقل من الصراع الطائفي الى الصراع الطبقي ويفتح من ثم طريق التغيير والتحول والتقدم. اما الطوائف الصغرى فتميل ايضا, من نفس المنطلق الى تضخيم مشكلة التمايز الثقافي وتأكيدها لتحويلها الى مشكلة هوية شبه قومية مصغرة واداة سياسية وتعويض عن السلطة الفقودة كفردوس. وهذا يعكس في الحقيقة ميل الصراع الاجتماعي في مثل هذا المجتمع بشكل عام الى ان يحافظ على شكله كصراع عصبوي ودائري.”
“لا تنشأ مشكلة الاقلية الا عندما تكون هناك مشكلة اغلبية. اي عندما تعجز طبقة اجتماعية واسعة عن تحقيق مواطنيتها في الدولة وتفشل في تغيير هذه الدولة فتنكفئ الى حل مشكلتها, ليس على صعيد المجتمع السياسي لكن على صعيد المجتمع المدني, اي في اطار السلطة التي تملكها والواقعة غير الرسمية. وهذا ما يستدعي دراسة نشوء العصبوية من جهة, اي المجتمع المدني المستقل عن المجتمع السياسي والذي لا يجد فيه مرآته, وان تنشأ من جهة اخرى فكرة الجماعة غير القومية او المتميزة عن الاغلبية والرافضة لمثالها الاعلى.”
“في حالة غياب الثقافة العليا المقنعة اي التي يتنازل من اجل القيم العليا التي تحملها جميع الافراد عن ثقافاتهم الدنيا, نرى ان العصبوية القائمة قادرة على قتل كل ديمقراطية شكلية وافراغها من محتواها. وفي حالة غياب دولة مركزية تعكس مصالح عليا تتجاوز مصالح عصبية محددة, نرى ان الاجماع الثقافي نفسه يزول لتنشأ ثقافات عصبوية محلية شديدة الانغلاق. وفي الحالتين تكون الاستبدادية هي المخرج الطبيعي للمجتمع. عندئذ يصبح تحقيق المواطنية لكل فرد مرهونا بتحقيق نوع من التوحد مع عصبته. وكثيرا ما تستند الدولة في هذه الظروف, من اجل تدعيم نفسها الى تشجيع ظاهرة المطابقة الثقافية هذه كي تعوض الاجماع الثقافي المصطنع والشكلي الاجماع السياسي المفقود. والعكس صحيح اذ يمكن للدولة التي تفتقر الى اجماع ثقافي ان تجد في السلطة الاستبدادية صورة مصطنعة للاجماع القومي.”
“الجماعة تتكون من قوى اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة ومتعارضة بالضرورة والا لما كان هناك حاجة لا للسياسة ولا الثقافة. وبقدر ما تستطيع الجماعة ان تجد حلولا للتناقضات التي تختمر في حجرها, تستطيع ان تقيم وحدتها السياسية والثقافية. لكن هذه الحلول ليست متماثلة دائما. فيمكن لوحدة الجماعة ان تستند الى غلبة فئة على الفئات الاخرى. واكثر الاشكال تجسيدا لذلك هو الحكم الاجنبي. وآلية الاستعمار الاجنبي والاستعمار الداخلي واحدة في الحقيقة. الا ان هذه الوحدة المفروضة بالغلبة لا تستطيع ان تقاوم المعارضة الداخلية الى ما لا نهاية, واذا حدث ونجحت في مقاومتها هذه فرضت على الجماعة التقهقر الكامل والفناء. والجماعة التي تستطيع ان تقيم وحدتها على اجماع قومي يعكس قبول الاغلبية للسلطة القائمة وانتمائها الطوعي للقيم الثقافية السائدة هي التي تتحول الى امة, حيث تتوثق وتتعمق روابط الجماعة السياسية والثقافية ويتغلب عامل التضامن والتكاتف الداخلي على عامل التفرقة والانقسام والمواجهة. وجوهر هذا الاجماع ثقافيا كان ام سياسيا هو اشراك الاغلبية في السلطة, اي في صياغة القرارات التي تتعلق بمصلحة الجماعة ككل. ويزول الاجماع بزوال المشاركة وبظهور الاستبعاد الثقافي او السياسي. ونوع هذا الاستبعاد للفئات المكونة للجماعة هو الذي يحدد شكل الاستبعاد القائم.”