“... ونحمل في عقولنا و ضمائرنا وطبيعتنا وفي الوعي و اللاوعي تراكمات حضارات وتراث و عادات كل تلك الألفيات . إذا غيّر الإنسان كل هذا لكي يكون ديموقراطياً غربياً فسيكون في حاجة إلى من يدلّه على نفسه لأنه لن يكون الشخص الشرقي ذاته”
“والإنسان في حاجة في بعض الأحيان لأن يخلو إلى نفسه ويجلس معها على انفراد. قد يكون لقاء مصالحة أو جلسة محاكمة أو بعضا من عتاب. المهم أن يجلس مع نفسه .. و ينتزعها من بين الناس .. ويستخلصها من أوحال الحياة و مستنقعات الزمن .. يزيل عنها تراكمات الأتربة التي تعلق بها كل يوم, يحاول أن يفتش فيها عن ذلك الضوء القديم الذي يختفي شيئا فشيئاً ويتضاءل يوماً بعد يوم”
“و لكن أهم برهان على البعث في نظري هو ذلك الإحساس الباطني العميق الفطري الذي نولد به جميعاً و نتصرف على أساسه . إن هناك نظاماًَ محكماً و قانوناً عادلاً .و نحن نطالب أنفسنا و نطالب غيرنا فطريّاً و غريزيّاً بهذا العدل .و تحترق صدورنا إذا لم يتحقق العدل .و نحارب لنرسي دعائم ذلك العدل .و هذا يعني أنه سوف يتحقق بصورة ما لا شك فيها .. لأنه حقيقة مطلقة فرضت نفسها على عقولنا و ضمائرنا طول الوقت .و إذا كنا نرى ذلك العدل يتحقق في دنيانا فلأننا لا نرى كل الصورة و لأن دنيانا الظاهرة ليست هي كل الحقيقة .”
“فأما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي. و أما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال. فبعد العلم، و بعد الرشد، و بعد الوعي، و بعد الاكتمال.. إذا هو يرتد طفلاً. طفلاً في عواطفه و انفعالاته. طفلاً في وعيه و معلوماته. طفلاً في تقديره و تدبيره. طفلاً أقل شيء يرضيه و أقل شيء يبكيه. طفلاً في حافظته فلا تمسك شيئاً، و في ذاكرته فلا تستحضر شيئاً. طفلاً في أخذه الأحداث و التجارب فرادى لا يربط بينها رابط و لا تؤدي في حسه و وعيه إلى نتيجة، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها: (لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً) و لكي يفلت من عقله و وعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به و تطاول، و جادل في الله و صفاته بالباطل!”
“و إذا كان هذا حال بعض الدعاة و الوُعَّاظ ..فأين الغرابة في أن يكون ذلك هو حال القادة مع القادة ..و الأدباء مع الأدباء ..و الوزراء مع المدراء ..و كل صنف من الخبراء ..الكل كذلك ..إلا من رَحِمَ ربي من المهالك”
“(فاعبده و اصطبر لعبادته).. اعبده و اصطبر على تكاليف العبادة. و هي تكاليف الارتقاء إلى أفق المثول بين يدي المعبود، و الثبات في هذا المرتقى العالي. اعبده و احشد نفسك و عبئ طاقتك للقاء و التلقي في ذلك الأفق العلوي.. إنها مشقة. مشقة التجمع والاحتشاد و التجرد من كل شاغل، و من كل هاتف و من كل التفات.. و إنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق. و لكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، و إلا بالتجرد لها، و الاستغراق فيها، و التحفز لها بكل جارحة و خالجة. فهي لا تفشي سرها و لا تمنح عطرها إلا لمن يتجرد لها، و يفتح منافذ حسه و قلبه جميعاً.)فاعبده و اصطبر لعبادته).. و العبادة في الإسلام ليست مجرد الشعائر. إنما هي كل نشاط: كل حركة. كل خالجة. كل نية. كل اتجاه. و إنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه. مشقة تحتاج إلى الاصطبار. ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء. خالصاً من أوشاب الأرض و أوهاق الضرورات، و شهوات النفس، و مواضعات الحياة.إنه منهج حياة كامل، يعيش الإنسان وفقه، و هو يستشعر في كل صغيرة و كبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله؛ فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهر الوضيء. و إنه لمنهج يحتاج إلى الصبر و الجهد و المعاناة.”