“إن المؤمن قد يحتقر أعراض الحياة كلها ؛ لا لأنه أصغر منها همة أو أضعف منها طاقة , ولا لأنه سلبي لا ينمي الحياة ولا يرقيها . . ولكن لأنه ينظر إليها من عل - مع قيامه بالخلافة فيها , وإنشائه للعمران والحضارة , وعنايته بالنماء والإكثار - فينشد من حياته ماهو أكبر من هذه الأعراض وأغلى , ينشد منها أن يقر في الأرض منهجاً , وأن يقود البشرية إلى ماهو أرفع وأكمل , وأن يركز راية الله فوق هامات الأرض والناس , ليتطلع إليها البشر في مكانها الرفيع , وليمدوا بأبصارهم وراء الواقع الزهيد المحدود , الذي يحيا له من لم يهبه الإيمان رفعة الهدف , وضخامة الاهتمام , وشمول النظرة .”
“إن الإسلام لا يريد من المؤمنين أن يدعوا أمر الدنيا . فهم خلقوا للخلافة في هذه الدنيا . ولكنه يريد منهم أن يتجهوا إلى الله في أمرها ؛ وألا يضيقوا من آفاقهم , فيجعلوا من الدنيا سوراً يحصرهم فيها . . إنه يريد أن يطلق " الإنسان " من أسوار هذه الأرض الصغيرة ؛ فيعمل فيها وهو أكبر منها , ويزاول الخلافة وهو متصل بالأفق الأعلى . . ومن ثم تبدو الاهتمامات القاصرة على هذه الأرض ضئيلة هزيلة وحدها حين ينظر إليها الإنسان من قمة التصور الإسلامي . .”
“ولا بد لصاحب العقيدة أن يتعامل مع هذا الوجود الكبير؛ ولا يحصر نفسه ونظره وتصوره واهتمامه ومشاعره في عالم الأرض الضيق الصغير.. لا بد له من هذا ليؤدي دوره اللائق بصاحب العقيدة. هذا الدور الشاق الذي يصطدم بحقارات الناس وأطماعهم، كما يصطدم بضلال القلوب والتواء النفوس. ويعاني من مقاومة الباطل وتشبثه بموضعه من الأرض ما لا يصبر عليه إلا من يتعامل مع وجود أكبر من هذه الحياة، وأوسع من هذه الأرض، وأبقى من ذلك الفناء.. إن مقاييس هذه الأرض وموازينها لا تمثل الحقيقة التي ينبغي أن تستقر في ضمير صاحب العقيدة. وما تبلغ من تمثيل تلك الحقيقة إلا بقدر ما يبلغ حجم الأرض بالقياس إلى حجم الكون؛ وما يبلغ عمر الأرض بالقياس إلى الأزل والأبد. والفارق هائل هائل لا تبلغ مقاييس الأرض كلها أن تحدده ولا حتى أن تشير إليه ! ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في أفق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الأرض الصغير. مهما تضخم هذا الواقع وامتد واستطال. يبقى يتعامل مع تلك الحقيقة الكبيرة الطليقة من قيود هذا الواقع الصغير. ويتعامل مع الوجود الكبير الذي يتمثله في الأزل والأبد. وفي ملك الآخرة الواسع العريض. وفي القيم الإيمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة.. وتلك وظيفة الإيمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها، لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها...”
“(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة , ولا تنس نصيبك من الدنيا). . وفي هذا يتمثل اعتدال المنهج الإلهي القويم . المنهج الذي يعلق قلب واجد المال بالآخرة . ولا يحرمه أن يأخذ بقسط من المتاع في هذه الحياة . بل يحضه على هذا ويكلفه إياه تكليفا , كي لا يتزهد الزهد الذي يهمل الحياة ويضعفها . لقد خلق الله طيبات الحياة ليستمتع بها الناس ; وليعملوا في الأرض لتوفيرها وتحصيلها , فتنمو الحياة وتتجدد , وتتحقق خلافة الإنسان في هذه الأرض . ذلك على أن تكون وجهتهم في هذا المتاع هي الآخرة , فلا ينحرفون عن طريقها , ولا يشغلون بالمتاع عن تكاليفها . والمتاع في هذه الحالة لون من ألوان الشكر للمنعم , وتقبل لعطاياه , وانتفاع بها . فهو طاعة من الطاعات يجزي عليها الله بالحسنى . وهكذا يحقق هذا المنهج التعادل والتناسق في حياة الإنسان , ويمكنه من الارتقاء الروحي الدائم من خلال حياته الطبيعية المتعادلة , التي لا حرمان فيها , ولا إهدار لمقومات الحياة الفطرية البسيطة .”
“إن هذه التربة الأرضية مؤلفة من ذرات معلومة الصفات. فإذا أخذ الناس هذه الذرات فقصارى ما يصوغونه منها لبنة أو آجرة، أو آنية أو أسطوانة، أو هيكل أو جهاز. كائناً في دقته ما يكون.. و لكن الله المبدع يجعل من تلك الذرات حياة. حياة نابضة خافقة. تنطوي على ذلك السر الإلهي المعجز.. سر الحياة.. ذلك السر الذي لا يستطيعه بشر، و لا يعرف سره بشر.. و هكذا القرآن.. حروف و كلمات يصوغ منها البشر كلاماً و أوزاناً، و يجعل منها الله قرآناً و فرقاناً، و الفرق بين صنع البشر و صنع الله من هذه الحروف و الكلمات، هو الفرق ما بين الجسد الخامد و الروح النابض.. هو الفرق ما بين صورة الحياة و حقيقة الحياة!”
“إن القلب الذي يتصل بالله تتغير موازينه وتصوراته؛ لأنه يرى الواقع الصغير المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل ، وإلى أصل الأمور كلها وراء الواقع الصغير المحدود .”
“الاستسلام المطلق للاعتقاد في الخوارق و القوى المجهولة خطر، لأنه يقود إلى الخرافة.. ويحول الحياة إلى وهم كبير ... ولكن التنكر المطلق لهذا الاعتقاد ليس أقل خطرا: لأنه يغلق منافذ المجهول كله، وينكر كل قوة غير منظورة لا لشىء إلا لأنها قد تكون أكبر من إدراكنا البشري في فترة من فترات حياتنا! وبذلك يصغر من هذا الوجود - مساحة وطاقة، وقيمة كذلك، ويحده بحدود " المعلوم " وهو إلى هذه اللحظة حين ! يقاس إلى عظمة الكون- ضئيل.. جدآ ضئيل!...إن حياة الإنسان على هذه الأرض سلسلة من العجز عن إدراك القوى الكونية أو سلسلة من القدرة على ادراك هذه القوى، كلما شب عن الطوق وخطا خطوة إلى الامام في طريقه الطويل!.إن قدرة الإنسان في وقت بعد وقت على إدراك إحدى قوى الكون التى كانت مجهولة له منذ لحظة وكانت فوق إدراكه في وقت ما.. لكفيلة بأن تفتح بصيرته على أن هناك قوى أخرى لم يدركها بعد لأنه لا يزال في دور التجريب!.إن احترام العقل البشري ذاته لخليق بأن نحسب للمجهول حسابه في حياتنا لا لنكل إليه أمورنا كما يصنع المتعلقون بالوهم والخرافة، ولكن لكى نحس عظمة هذا الكون على حقيقتها، ولكى نعرف لأنفسنا قدرها في كيان هذا الكون العريض. وإن هذا لخليق بأن يفتح للروح الانسانية قوى كثيرة للمعرفة وللشعور بالوشائج التي تربطنا بالكون من داخلنا وهى بلا شك أكبر وأعمق من كل ما أدركناه بعقولنا حتى اليوم بدليل أننا ما نزال نكشف في كل يوم عن مجهول جديد، وأننا لا نزال بعد نعيش”