“هكذا يمكننا أن نحدد الظرف الوحيد الذي يجوز فيه للأفراد أن يتجاوزوا حرية الفكر إلى حرية العمل: وهو حين يجدون حقهم في التعبير عن آرائهم بالقول أو الكتابة مسلوباً، فلا يجدون أمامهم مجالاً مفتوحاً للتعبير عن استهجانهم لتلك الأوضاع سوى تحديها تحدياً فعلياً بعصيانها ومخالفتها ومحاولة هدمها بالقوة، أو قل في كلمة واحدة: بالثورة”
“حين أقول إن الثورة يجب عليها أن تقدم على الصراع الفكري الذي يستلزمه تغيير المفاهيم والقيم، فمن أعني بالثورة؟إن الذين أعنيهم هم المفكرون والعلماء والكتاب والأدباء والفنانون. أو قل بكلمة واحدة:المثقفون. المثقفون الذين قبلوا الثورة بطبيعتها الثورية.هؤلاء هم المكلفون بالثورة الفكرية.لكنهم لن يؤدوا واجبهم هذا إلا إذا تحقق لهم شرط أساسي: هو ضمان حرية التعبير. ذلك أن صراعهم الفكري مع المجتمع المحافظ سيقودهم إلى كثير من المواقف التي يعارضون فيها هذا المجتمع في طائفة من أعز معتقداته وأحبها إلى قلبه وأقواها تمكناً من صميم نفسيته. وهذا قمين أن يعرضهم لكثير من الشكوك والريب والنفور والكراهية والعداء والاتهامات. سيتهمون في دينهم وفي أخلاقهم، وسيتهمون في حبهم للوطن وإخلاصهم للقومية العربية فمن حقهم أن ينتظروا من الدولة -دولة الثورة- أن تحميهم من عواقب هذه الاتهامات الوبيلة.”
“لا تزال حرية الفكر عندنا مقيدة بقيود عظيمة تضيق على المفكرين الخناق، و لا يزال هؤلاء المفكرون يتحملون العقاب و الإدانة بمختلف التهم، من اتهامهم بأنهم كفرة ملحدون، أو متحللون فاسدون، أو مارقون عن العروبة، إلى آخر ما تحتويه تلك القائمة الطويلة من الإباحية و الشعوبية و العمالة ،،،”
“فالمجتمع المثالي هو الذي يكون فيه هذا الاتفاق المرعي بين الكثرة والقلة. أما الكثرة فتحترم آراء القلة وتدع لها الحق في التعبير عن أفكارها مهما تخالف المعتقدات الشائعة، وتسمح لها بحرية الانتقاد للأوضاع والعادات والقوانين السائدة مهما تكن عزيزة عليها. وأما القلة فتخضع لقوانين الكثرة ولا تخرج خروجاً عملياً عليها مهما تظنها خاطئة أو ضارة مكتفية بالنقد والدعوة إلى التغيير ومنتظرة في صبر ذلك اليوم الذي تنجح فيه في إقناع عدد كاف من أفراد المجتمع يمكنها من إحداث التغيير المطلوب بطريقة مشروعة منظمة يسنها القانون.”
“لننظر الآن إلى ادعاء رجال الدين أن لديهم ف كتبهم الدينية نظاماً يصلح لكل مكان و كل زمان دون أن يحتاج إلى تغيير أو إضافة، نظاماً قد شمل كل كبيرة و صغيرة لا فى مسائل العقيدة وحدها بل فى شؤون الدنيا و حاجات الحياة أيضاً. و هو ادعاء لا يفتؤون ينشرونه و يكررونه، و يستشهدون له بآيات أو أجزاء من آيات يحرفونها عن مواضعها، و يحمّلونها فوق ما يحتمل معناها. كاستشهادهم بقوله تعالى "ما فرطنا فى الكتاب من شئ"، و قوله "تبياناً لكل شئ"، و قوله "و تفصيل كل شئ" و قوله "اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتى".ينسون أن الحديث فى الآية الأولى ليس عن القرآن بل عن اللوح المحفوظ، و يرفضون أن يسلموا بأن المقصود فى الآيات الأخرى أصول العقيدة التى بها يتميز الإسلام عن ثائر الأديان فيصرون على أن المراد فيها أيضاً كل ما تحتاجه حياة البشر من قوانين و معاملات ،،،”
“الثورة هى الطريقة الوحيدة التى يجدها المفكرون ذوو الضمائر الحية و الوعى اليقظ حين يهولهم سوء الأحوال و يرون بثاقب نظرتهم الكارثة التى تسير الأمة إليها و لا يجدون وسيلة أخرى لتنبيهها و دفعها إلى إحداث التغيير الضرورى ،،،”
“وخلاصة القول: أنه لا يكاد يوجد رأي علمي جديد إلا وقامت عليه قائمة رجال الدين بحجة أنه يخالف الدين. والذي يعنونه أنه يخالف فهمهم الخاص للكون، الذي يبنونه على تفسيرهم الحرفي المتجمد لنصوص معينة في الكتب المقدسة. وهم يرفضون أن يغيروا فهمهم هذا ويستمرون في الرفض ما وسعهم؛ محاربين الفكر الجديد أقسى محاربة يستطيعونها، مرتكبين أشنع الجرائم في تكميم الأفواه وحرق الكتب وتحريم نشرها، وفي الطرد والإقالة والسجن والنفي وفي التعذيب الأليم والحرق والشنق والتصليب، ولا يكفون عن جرائمهم إلا بعد جهاد مرير واستشهاد كبير من أحرار الفكر.”