“لأن الشاه في عودته إلى العرش كان مدينا للمخابرات المركزية الأمريكية بالدرجة الأولى، فإن ارتباطة بالمخططات الأمريكية تزايد منذ عام 1953 ، إذ تضخمت أعداد المستشارين الأمريكيين عسكريين ومدنيين حتى وصل عددهم إلى أربعين ألفا وصدر قانون يمنحهم حصانة قضائية خاصة.مما اثار سخط علماء الدين والعامة في البلاد”
“شهدت بداية الستينيات اتجاه الشاه إلى اتباع سياسة تصفية العناصر والتيارات السياسية التي عارضته ووقفت بجوار الدكتور محمد مصدق في مواجهته الشهيرة للشاه وأسرته عام 1952 وتلك كانت المهمة الاساسية التي انيطت بجهاز الشرطة السرية (الساواك) الذي أنشأه الشاه عام 1953 (الكلمة اختصار لعبارة "سازمان اطلاعات وأمنيت كشور" أي منظمة المخابرات وأمن الدولة، ثم توالت الضربات المتلاحقة التي أصابت اليسار الايراني ممثلا بحزب توده المركسي. إذ تم اعتقال اعداد ضخمة من أعضائه قدرتهم مصادر الحزب بحوالي 5000 عضو، بينهم 40 اعدموا، و14 ماتو تحت التعذيب، واكثر من 200 حكم عليهم بالسجن المؤبد”
“هناك بعد آخر مهم في هذا الصدد هو أن إيران القومية ليست بحاجة إلى العالم العربي بينما إيران الإسلامية بحاجة حقيقية إليه.فالعالم العربي بالنسبة للأولى سوق أو منافس في انتاج النفط أو محيط استراتيجي - غير أن الصيغة الثانية تتعامل مع العالم العربي - فوق ذلك - بحسبانه معقل الأغلبية السنية، أي قيادة 90% من الأمةالإسلامية، التي يشكل الشيعة فيها 10% فقط، 40% منهم في إيران، والباقي في دول أخرى آسيوية بالدرجة الأولى، حتى في الجانب الشيعي التي تقف فيه إيران الإسلامية فإن أهم مقدساته في العالم العربي.سواء ما كان منها في مكة والمدينة، أو مزاراته في العراق التي سبقت الإشارة إليها. حيث توجد هناك سبعة من أضرحة أئمة الشيعة الإثنى عشر.”
“في إيران يصبح الخيار الإسلامي أكثر إلحاحًا فحيث تعددت الأصول العرقيّة فإن الإسلام يلعب دور "الجامع المشترك الأعظم" .. هنا يكتسب الإسلام أهمية مضاعفة إذ لايقف تأثيره فقط عند كونه "الردّ" في معرك التحدي الحضاري ولكنه أيضًا "الهوية" التي يعتصم بها الناس في مواجهة التجزئة والتفتت ..و الثورة لم يكن من أهدافها أن تحررّ المستضعفين من ظلم الشاه لتلقي بهم في أتون الحرب؛ وأن هؤلاء المستضعفين أيّدو الثورة لكي يتبوءوا مكانهم في الدنيا بعد طول مذلّة وانسحاق وليس لكي ينتظموا في قوافل إلى الآخرة حتى وإن رست بهم على أبواب الجنة .”
“و إذا كان الشعور بالولاء قد دفع الألوف من مسلمي الهند إلى هجرة أهلهم و ديارهم إلى أفغانستان عندما خاضت بريطانيا الحرب ضد الخلافة العثمانية ، معتبرين أن بلادهم - و هي المستعمرة البريطانية - قد صارت "دار حرب" واجبة الترك ، فإن الشعور بالانتماء دفع الإيرانيين للذهاب إلى ما هو أبعد ، إذ اعتبروا أن استمرار الاغتصاب الإسرائيلي لفلسطين بمثابة عدوان على ديار الإسلام . يظل رده مسئولية كل مسلم . فوقفوا دون تردد إلى قضية الثورة . و اعتبروا منذ للحظة الأولى أن مكانهم الطبيعي في الخندق الفلسطيني . واستعصى عليهم - ولا يزال - أن يفهموا غير لغة النضال المسلح ضد اسرائيل ، بقدر ما أنهم لم يتصوروا لهم مكانا خارج المربع الفلسطيني .”
“حاول الشاه أن يحسن من صورته امام الناس وأمام العالم الخارجي عن طريق اقامة هياكل سياسية وهمية توحي بشكل الممارسة الديموقراطية فأنشأ حزبين توأم هما : "مردم" اي الشعب، و"مليون" أي الوطنيون، وهو الذي سمي فيما بعد "إيران نوين" أي ايران الجديدة. ونصّب اثنين من رجالة على راس الحزبين، ولجأ فيما بعد سنة 1975 إلى إلغاء الحزبين واستبدالهما بحزب واحد هو "رستاخيز ملت" أي البعث الشعبي، وأعلن أن من لا ينضم إلى حزبه إما عميل أو خائن وعليه إما يغادر البلاد أو يدخل السجن، .. وهو ما أثار الجماهير ودفعها إلى السخرية المرة من الشاه وحزبه "رستاخيز" فأطلقت في طهران على صحيفة الحزب الذي حملت اسمه كلمة واحدة هي : "رسوا خير" ومعناها "منبع الفضيحة"ـ”
“رابعة تلك الملاحظات أن الإيرانيين لم يكونوا على استيعاب كاف لتطورات الوضع العربي ، التي هي في مجملها أقرب إلى السلب منه إلى الإيجاب ، ذلك أنه حتى قرب نهاية الستينات كانت للجماهير العربية قيادة متمثلة في جمال عبد الناصر . و كانت قيم النضال ضد الاستعمار و الثورة لاستخلاص الحقوق مما تبناه الشارع العربي و وقف وراءه . كان للجماهير العربية حضور ، فضلا عن أنه كانت ثمة قيادة تعبر عن ضمير تلك الجماهير و طموحتها . ابتداء من السبعينات تغيرت تلك الصورة ، غاب الرمز و غاب دور الشارع . و ظهرت خريطة من القيم السلبية الجديدة في الواقع العربي ، تتبنى الإنحياز إلى المعسكر الغبي من ناحية ، و ترفع شعارات الإقليمية و التجزئة من ناحية أخرى . و بدأت في العالم العربي مرحلة "الأنظمة" التي تعاظم دورها على حساب دور الشارع و الجماهير . هذه الظروف في مجموعها كان لها تأثيرها الضروري على القيادة الفلسطنينة . كان لابد لتلك القيادة أن تتعامل مع الواقع العربي بمتغيراته السلبية ، إذ لم تكن في موقف يسمح لها لا بتحدي هذا الواقع و لا بتغييره . و هذا ما لم تدركه القيادة الإيرانية ، و حاسبت الفلسطينيين من منطلق خاطيء تماما ، منفصل عن تلك المتغيرات في الواقع العربي .”