“كان الناس في ذلك الحين مصابين بداء الصراع النفسي بشكل عنيف. فهم كانوا بدواً في أعماق نفوسهم. وكان يطالبون الحكام بإتباع تعاليم الإسلام. وبعبارة أخرى: كانت قلوبهم بدوية وألسنتهم اسلامية. فكانوا يطالبون الحاكم بالعدل والماساوة بينما هم كانو في واقع أمرهم كغيرهم من أبناء القبائل أولي كبرياء وتفاخر بالأنساب والأحساب. وكان الفرد آنذاك يحتج على الحكام بالحجة الدينية ثم يثور عليهم بالسيف البدوي.”
“ولعل الناس كانوا في ذلك الحين لا يبالون أن ينهب الخليفة من أموالهم ما يشاء ما دام يغمي عليه من خشية الله ويبني المساجد ويغدق النعم علي الواعظين .”
“إذا انشغل الناس في المفاضلة بين رجال أحياء كان ذلك دليلا على حيوية المجتمع. وهذا هو ما يجري الآن في البلاد الراقية حيث يدور الجدل في أوقات الانتخاب حول فضائل رجال السياسة أو أمثالهم ليعرف الناس ما لهم وما عليهم. أما إذا اختلف الناس في فضائل رجال أموات كان ذلك دليلا على مرض المجتمع و اقترابه من الموت. ولا يهتم بالموتى إلا الذي يريد أن يموت و يذهب إلى حيث يعيش الموتى عليهم رحمة الله”
“والثورات التي هزّت التاريخ في مختلف العصور جرت كلها على هذا المنوال. فالناس لا يثورون من جرّاء ظلم واقع عليهم، إنّما يثورون من جرّاء شعورهم بالظلم. فالشعور بالظلم هو أعظم أثراً في الناس من الظلم ذاته.إن الناس لم يثوروا على الطغاة الذين سفكوا دماءهم وجوّعوهم وسلّطوا الجلاوزة عليهم يضربون ظهورهم بالسياط. ذلك لأنّ الناس قد اعتادوا على ذلك منذ زمن مضى وألفوه جيلاً بعد جيل. فهم يحسبونه أمراً طبيعيّاً لا فائدة من الاعتراض عليه. لكنّهم يثورون ثورة عارمة عندما تنتشر بينهم مبادئ اجتماعية جديدة فتبعث فيهم الحماس وتمنحهم ذلاقة البيان وقوّة النقد”
“يبكي أحدهم على الحسين في مجلس التعزية ثم لا يبالي بعد ذلك أن يسير في الناس سيرة يزيد”
“والغريب أنّ معظم المؤخرين القدامى يكتبون التاريخ في هذا الضوء. فهم يحمدون للسلاطين ما فتحوا وعمروا، ويشجبون الشعوب المفتوحة على ما شكوا منه أو ثاروا له. فالتاريخ عندهم عبارة عن سجل للفتح والعمران. أما المبادئ التي نادى به الثائرون فهي زندقة أو دعوة إلى الشغب والفوضى.لا أزال أتذكر ما كنّا ندرسه في المدارس الابتدائية و...الثانوية، ونحن تلاميذ، من معالم التاريخ القديم. فكنّا لا نفهم من التاريخ سوى أعمال الملوك، وكان علينا أن نحفظ أسماء الملوك وأسماء البلاد التي فتحوها دون أن نسأل عن المشاعر المكبوتة التي كانت الشعوب المفتوحة تعانيها عند الفتح.شعرت ذات يوم وأنا صبي بشيء من الصراع النفسي. فقد كنت أقرأ قصص الأنبياء في البيت وقصص السلاطين في المدرسة. فأرى بينهما تناقضاً مذهلاً. فكتب الأنبياء تعطينا صورة من التاريخ معاكساً لما تعطينا إيّاه كتب السلاطين فالقرآن مثلاً يحتقر فرعون وآثاره، بينما يمجّد موسى ومن تبعه من الثوار على فرعون. أما كتب التاريخ المدرسي فهي تركّز نظرها على أمجاد فرعون وأمثاله وتكاد تهمل أثر المتمردين عليهم.”
“ولو سألت أي فرد قد بلغ منزلة رفيعة من منازل الجاه أو اليسر أو الشهرة : “هل كنت في بداية حياتك قد وضعت نصب عينيك هذه المنزلة الرفيعة التي أنت فيها فسعيت نحوها حتى وصلت إليها؟” فإنه سيجيبك بالنفي على أرجح الظن.إن من النادر أن نجد شخصاً وضع في بداية حياته خطة دقيقة للعمل فسار عليها خطوة بعد خطوة ثم نال النجاح أخيراً على أساسها. إن معظم الناس يتجهون في أول أمرهم نحو غاية ثم ينحرفون عنها أخيراً. إن واقع الحياة أقوى من أي خطة يضعها عقل محدود. فالانسان ينجرف في كثير من الأحيان بتيار الحياة ويسير كما تمليه عليه ضرورات الساعة .فإذا نجح على سبيل الصدفة رأيته قد صعر خده على الناس وانثال عليهم لوماً وتقريعاً حاسباً سوء حظهم من صنع أيديهم .”