“من عرفوني وأنا في الرّابعة من عمري، يقولون إنني كنت شاحباً ومستغرقاً في التأمل، وإنني لم أكن أتكلم إلا لأروي هذيانات. ولكن حكاياتي، في معظمها، كانت أحداثاً بسيطة من الحياة اليومية، أجعلها أنا أكثر جاذبية بتفاصيل متخيلة، لكي يصغي إليّ الكبار. وكانت أفضل مصادر إلهامي هي الأحاديث التي يتبادلها الكبار أمامي لأنهم يظنون أنني لا أفهمها. أو التي يشفّرونها عمداً، كيلا أفهمها. لكن الأمر كان خلاف ذلك؛ فقد كنت امتصها مثل إسفنجة، وأفككها إلى أجزاء، وأقلبها لكي أخفي الأصل؛ وعندما أرويها للأشخاص أنفسهم الذين رووها تتملكهم الحيرة للتوافق الغريب بين ما أقوله، وما يفكرون فيه.”
“أظن أن إكسير حياتي كلها كان هذا المزيج السحري الشفاف الذي تلخصه الدهشة، في المدرسة الابتدائية كان أحد مدرسينا الرائعين يسميني «المندهش»، لأنني كنت شاردا دائما، وبعيون مفتوحة أطل على ما يحدث خارج الفصل، عبر النافذة التي كنت أحارب للجلوس إلى جوارها، في الصفوف الخلفية. كنت أقطف دهشتي من سحابة عابرة تتشكل في صورة سفينة، سفينة تسبح في السماء، أو عصفور يتقافز بدوافع سرية من غصن إلى غصن على شجرة في الفناء، أو قطة تطارد فراشة على السور.كان ذلك يشكل لي مآزق متواصلة، أقلها أن كثيرين ظلوا يعتقدون إنني لا أسمع، لأنهم يمعنون في ندائي ولا أجيب، وكانوا لايدركون أنني تائه في عالم مواز أبحث عن أكسير الدهشة.”
“ما آلمني شيء في الحياة ما آلمتني الوحدة. كنت أشعر - كلما انفردت - بفراغ هائل في نفسي ، وأحس بأنها غريبة عني ثقيلة علي لا أطيق الانفراد بها ، فإذا انفردت بها أحسست أن بيني وبين الحياة صحارى قاحلة وبيداً ما لها من آخر ، بل كنت أرى العالم في كثير من الأحيان وحشاً فاغراً فاه لابتلاعي ، فأحاول الفرار ، ولكن أين المفر من نفسي التي بين جنبي ودنياي التي أعيش فيها ؟”
“الكبار يقولون في صمتهم بين جملتين، أو في صمتهم أثناء عشاء حميم، ما لا يقوله غيرهم خلال أشهر من الصمت؛ ذلك أنّ الصمت يحتاج في لحظة ما أن يكسره الكلام ليكون صمتًا. أمّا الصمت المفتوح على مزيد من الصمت، فهو يشي بضعف أو خلل عاطفيّ ما يخفيه صاحبه خلف قناع الصمت خوفًا من المواجهة.”
“كنت مبتلاً حتى العظم.. ولكني شعرت بالراحة وأنا أدخل تحت سقف السوق.. وعلى الطقس الممطر.. كان الناس يتزاحمون داخله ..تكاد أكتاف الناس تتعانق فيه لكثرتهم.. في حين كانت الشمس تشرف على المغيب.. كان ذلك من أجمل المخابئ التي دخلتها في حياتي.. تلك الممخابئ التي تختبئ فيها من نفسك.. وتذوب مع من حولك.. لتنسى همومك ومشاكلك ..”
“و هذا الاحساس كان قد استيقظ في نفسي منذ زمن بعيد ، و هو أنني كنت أتحلل و أنا حي ، و لم يكن هناك توافق بين جسمي وقلبي ، وليس هذا فحسب ، بل بين روحي و قلبي ، كنت اجتاز دائما نوعا من الفصام و التحلل الغريب ، و أحيانا كنت أفكر في أشياء لا أستطيع أنا نفسي أن أصدقها”