“لا أريد بالصديق ذلك القرين الذي يصحبك كما يصحبك الشيطان : لا خير لك إلا في معاداته ومخالفته ، ولا ذلك الرفيق الذي يتصنع لك ويسامحك متى كان فيك طعم العسل ؛ لأن فيه فيه روح ذبابة ، ولا ذلك الحبيب الذي يكون لك في هم الحب كأنه وطن جديد وقد نفيت إليه نفي المبعدين ، ولا ذلك الصاحب الذي يكون كجلدة الوجه : تحمر وتصفر لأن الصحة والمرض يتعاقبان عليها ، فكل أولئك الأصدقاء لا تراهم أبداً إلى على أطراف مصائبك ، كأنهم هناك حدود تعرف بها أين تبتدئ المصيبة لا من أين تبتدئ الصداقة . ولكن الصديق هو الذي إذا حضر رأيت كيف تظهر لك نفسك لتتأمل فيها ، وإذا غاب أحسست أن جزءاً منك ليس فيك ، فسائرك يحن إليه ، فإذا أصبح من ماضيك بعد أن كان من حاضرك ، وإذا تحول عنك ليصلك بغير المحدود كما وصلك بالمحدود ، وإذا مات .. يومئذٍ لا تقول : إنه مات لك ميت ، بل مات فيك ميت ؛ ذلك هو الصديق .”
“لله منك أيتها الفئة الباغية! العلم الذي لا يخلق ذبابة ولا أحقر من ذبابة ولكنه يجدها فيتفلسف ويقول لنا: كيف خلقت؟ هو الذي يريدكم على أن تكذبوا بالخالق”
“في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك, وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك ..سأتصورك عليلاً لأداويك, مصابًا لأعزيك, مطرودًا مرذولاً لأكون لك وطنًا وأهل وطن, سجينًا لأشهدك بأي تهور يجازف الإخلاص, ثم أبصركمتفوقاً فريدًا لأفاخر بك وأركن إليك ..وسأتخيل ألف ألف مرة كيف أنت تطرب, وكيف تشتاق, وكيف تحزن, وكيف تتغلب على عاديّ الانفعال برزانة وشهامة لتستسلم ببسالة وحرارة إلاّ الىالانفعال النبيل !وسأتخيل ألف ألف مرة إلى أي درجة تستطيع أنت أن تقسو, وإلى أي درجة تستطيع أنت أن ترفق لأعرف إلى أي درجة تستطيع أنت أن تحب ..وفي أعماق نفسي يتصاعد الشكر لك بخورًا لأنك أوحيت إليّ ما عجز دونه الآخرون ..أتعلم ذلك, أنت الذي لا تعلم ?أتعلم ذلك, أنت الذي لا أريد أن تعلم ؟”
“سأكتبُ هذه الكلمات المرتعشة ، وسأبسط رعدة قلبي في ألفاظها ومعانيها ، أكتب عن (..) ذلك الاسم الذي كان سنة كاملة من عمر هذا القلب ، على حين أن السعادة قد تكون لحظات من هذا العمر الذي لا يعدّ بالسنين ولكن بالعواطف ، فلا يسعني لا أن أرد خواطري إلى القلب لتنصبغَ في الدم قبل أن تنصبغ في الحبر ثم تخرج إلى الدنيا من هناك بل ما يخفق وما يزفر وما يئنّ . " من هناك" ! آه . من ترى في الناس يعرف معنى هذه الكلمة ويتسع فكرهُ لهذا الظرف المكاني الذي أشير إليه ؟ إنّ العقل ليمد أكنافه على السموات فيسعها خيالا كما ترى بعينيك في ماء الغدير شبكة السماء كلها محبوكة من خيوط الضوء ، مفصّلة بعقد النجوم . ولكن هناك ؛ في القلب ؛ عند ملتقى سر الحياة وسر محييها ؛ في القلب ؛ عند النقطة التي يتقطع فيها الطرف بينكَ وبين من تحب ، حين تريد الجميلة أن تقول لك أول مرة أحبك ؛ ولا تقولها . هناك ؛ في القلب ؛ وعند موضع الهوى الذي ينشعب فيه خيط من نظرك وخيط من نظرها فيلتبسان فتكوّن منهما عقدة من أصعب وأشد عقد الحياة . هناك ؟ هذا معنى "هناك " .”
“فتحنا القبر وضرحنا للميت العزيز.. لم أقل أنه مات.. بل قلت أن موته قد مات ! كأن الحي على هذه الأرض هو القبر الإنساني لا الجسم الإنساني.. فإنك لتجد قبورا من ألف سنة ولا تجد إنسانا في بعض عمرها.. أما ترى هموم الدنيا وأحزانها كيف لا يخلو منها أحد؟ وكيف تخرج من النعيم كما تخرج من البؤس؟ وما احسبها إلا صورا من ظلمة القبر يجيء القبر فيها حينا بعد حين إلى ميته الذي لم يمت..”
“لم تعطني يا رب ما أشتهي كما أشتهيه ولا بمقدار مني، وجعلت حظي من آمالي الواسعة كالمصباح في مطلعه من النجوم التي لا عدد لها، ولكن سبحانك اللهم لك الحمد بقدر ما لم تعط وما أعطيت، لك الحمد أن هديتني إلى الحكمة وجعلتني أرى أن نور المصباح الضئيل الذي يضيء جوانب بيتي هو أكثر نوراًً في داخل البيت من كل النجوم التي ترى على السطح وإن ملأت الفضاء”
“ما الفراق إلا أن تشعر الأرواح المفارقة أحبتها بمس الفناء لأن أرواحاً أخرى فارقتها؛ ففي الموت يُمسُّ وجودنا ليتحطِّم، وفي الفراق يُمسُّ ليلتوي؛ وكأن الذي يقبض الروح في كفه حين موتها هو الذي يلمسها عند الفراق بأطراف أصابعه! وإن الحبيب وجود حبيبه لأن فيه عواطفه، فعند الفراق تُنتزع قطعةٌ من وجودنا فنرجع باكين، ونجلسُ في كل مكانٍ محزونين، كأن في القلوب معنىً من المناحة على معنًى من الموت! وكلُّ ما فيه الحب فهو وحده الحياة ولو كان صغيراً لا خَطَر له، ولو كان خسيساً لا قيمة له، كأن الحبيب يتَّخذ في وجودنا صورةً معنويةً من القلب! والقلب على صِغَره يخرج منه كلُّ الدم ويعود إليه كل الدم. في الحبّ يتعلم القلبُ كيف يتألم بالمعاني التي يُجرِّدها من أشخاصها المحبوبة وكانت كامنة فيهم، وبالفراق يتعلّم القلب كيف يتوجَّع بالمعاني التي يجرِّدها هو من نفسه وكانت كامنةً فيه. فترى العمرَ يتسلَّل يوماً فيوماً ولانشعر به، ولكن متى فارقنا من نحبهم نبَّه القلب فينا معنى الفراغ؛ فكان من الفراق على أكبادنا ظمأٌ كظمإ السقاءِ الذي فرغ ماؤه فجفَّ وكان الفراقُ جفافَه. ألا ياطائر الحب، إن لك إذا طرت جناحين؛ فما أقرب من هو على جناح الفراقِ ممن هو على جناح الهجر.”