“ونظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة في فناء دارانا؛ فـ علمت أن الحياة لا تزال بخير ..أنظر إلي جذعها القوي المعتدل؛ وإلي عروقها الضاربة في الأرض؛ وإلي الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها..فـ أُحس بالطمأنينة؛ أُحس أنني لست ريشه في مهب الريح ..ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل؛ له جذور؛ له هدف ..موسم الهجرة إلى الشمال”
“نعم الحياة طيبة والدنيا كمحالها .. لم تتغير موسم الهجرة إلى الشمال”
“مثلنا تماماً . يولدون و يموتون و في الرحلة من المهد إلى اللحد يحلمون أحلاماً بعضها يصدق و بعضها يخيب . يخافون من المجهول , و ينشدون الحب , و يبحثون عن الطمأنينة في الزواج و الولد . فيهم أقوياء و بينهم مستضعفون , بعضهم أعطته الحياة أكثر مما يستحق , وبعضهم حرمته الحياة؛ لكن الفروق تضيق و أغلب الضعفاء لم يعودوا ضعفاء موسم الهجرة إلى الشمال”
“ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات من نوع جديد : خرافة التصنيع ،خرافة التأميم ، خرافة الوحدة العربية ،خرافة الوحدة الإفريقية . إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة ، وستحلون جميع مشاكلكم ، وتقيمون فردوساً . أوهام . أحلام يقظة . عن طريق الحقائق والأرقام والإحصائيات ، يمكن أن تقبلوا واقعكم وتتعايشوا معه وتحاولوا التغيير في حدود طاقاتكم . وقد كان بوسع رجل مثل مصطفى سعيد أن يلعب دورا لا بأس به في هذا السبيل ، لو أنه لم يتحوّل إلى مهرّج بين يدي حفنة من الإنكليز المعتوهين”
“لا لست انا الحجر الذي يلقي في الماء ولكني البذرة التي تبذر في الحقل”
“مــن أيــن يأتى هـــؤلاء ؟السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان أم أنّهم حجبوها بالأكاذيب ؟هل مطار الخرطوم ما يزال يمتلئ بالنّازحين ؟يريدون الهرب الى أيّ مكان ، فذلك البلد الواسع لم يعد يتّسع لهم . كأنّي بهم ينتظرون منذ تركتهم في ذلك اليوم عام ثمانية وثمانين .يُعلَن عن قيام الطائرات ولا تقوم . لا أحد يكلّمهم .لا أحد يهمّه أمرهم .هل ما زالوا يتحدّثون عن الرخاء والناس جوعى ؟ وعن الأمن والناس في ذُعر ؟ وعن صلاح الأحوال والبلد خراب ؟الخرطوم الجميلة مثل طفلة يُنِيمونها عُنوةً ويغلقون عليها الباب ، تنام منذ العاشرة ، تنام باكية في ثيابها البالية ، لا حركة في الطرقات . لا أضواء من نوافذ البيوت . لا فرحٌ في القلوب . لا ضحك في الحناجر . لا ماء ، لا خُبز ، لاسُكّر ، لا بنزين ، لا دواء . الأمن مستتب كما يهدأ الموتى .نهر النيل الصبور يسير سيره الحكيم ، ويعزف لحنه القديم " السادة " الجدد لايسمعون ولا يفهمون .يظنّون أنّهم وجدوا مفاتيح المستقبل . يعرفون الحلول . موقنون من كل شيئ .يزحمون شاشات التلفزيون ومكرفونات الإذاعة .يقولون كلاماً ميِّتاً في بلدٍ حيٍّ في حقيقته ولكنّهم يريدون قتله حتى يستتب الأممِن أين جاء هؤلاء النّاس ؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات ؟أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب ؟أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط ؟أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد ، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي و المصطفى ؟أما قرأوا شعر العباس والمجذوب ؟أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة ، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟إذاً لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه ؟أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس بارداً . أنتمي الى أمّة مقهورة ودولة تافهة . أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء ، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق .من الذي يبني لك المستقبل يا هداك الله وأنت تذبح الخيل وتُبقي العربات ، وتُميت الأرض وتُحيي الآفات ؟هل حرائر النساء من " سودري " و " حمرة الوز " و " حمرة الشيخ " ما زلن يتسولنّ في شوارع الخرطوم ؟هل ما زال أهل الجنوب ينزحون الى الشمال وأهل الشمال يهربون الى أي بلد يقبلهم ؟هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط ؟ أما زالوا يحلمون أن يُقيموا على جثّة السودان المسكين خلافة إسلامية سودانية يبايعها أهل مصر وبلاد الشام والمغرب واليمن والعراق وبلاد جزيرة العرب ؟من أين جاء هؤلاء الناس ؟ بل - مَن هؤلاء الناس ؟__________________”
“ هل أسعار الدولار ما تزال في صعود وأقدار الناس في هبوط ؟ أما زالو يحلمون أن يقيمو على جثة السودان المسكين خلافة إسلامية ! ”