“لم أكن شيوعياً كما أسلفت ، كان الشيوعيون يتهموننى بأننى مجرد رومانسى ثورىكنت و لم أزل ، أرى فى صورة المجتمع الحريص على العدالة الاجتماعية و التكافل العام حلماً إنسانياً جميلاً و نبيلاًأبكى... لا أعرف لماذا بالضبط أبكى ، لكنها كل أحزان العمر تتجمع فى هذه اللحظة و تدفعنى للبكاء الذى كلما حاولت كبحه يجمح أكثرما الغربة ؟ لقد أجهدت نفسى لأحلل ما يمكن أن تكونه، و وصلت-بعد تفحصى للاحتمالات الكثيرة- إلى أنها يمكن أن تكون العيش فى مكان لا تعطى فيه و لا تأخذ عطاءً حقيقياً و أخذاً من المشاعر... مشاعر لا يحتملها واجب اللياقة، بل تتفجر بتلقائية و تنساب بلا عمد كأنها مياه الينابيع تتفجر لفرط اكتنازها تحت الأرض و تسيل إلى حيث ينتظرها و يتلقفها المنخفض. مرة تكون أنت النبع و مرة تكون المنخفض”
“ما الغربة؟ لقد أجهدت نفسى لأحلل ما يمكن أن تكونه، ووصلت -بعد تفحصى للاحتمالات الكثيرة- إلى أنها يمكن أن تكون العيش فى مكان لا تعطى فيه ولا تأخذ عطاءً حقيقيًا وأخذًا من المشاعر.. مشاعر لا يحتملها واجب اللياقة بل تتفجر بتلقائية وتنساب بلا عمد كأنها مياه الينابيع تتفجر لفرط اكتنازها تحت الأرض وتسيل إلى حيث ينتظرها ويتلقف المنخفض. مرة تكون أنت النبع وأخرى تكون المنخفض. لكن الغربة ببساطة تجعلك شيئا مسطحًا، أو ناتئًا ومحجوزًا بسور عال من الدلالات العميقة للغة، وإرث تقاليد المكان وأعرافه وخبراته الحياتية ومشاعره.من تعطى ومن يعطيك حقيقة وأمامك كل هذا السور؟”
“أبكي..لا أعرف لماذا بالضبط أبكي، لكن كل أحزان العمر تتجمع في هذه اللحظة وتدفعني للبكاء الذي كلما حاولت كبحه يجمح أكثر”
“ كنت أحس بأن يد الله قد ألقت بى فى تجربة فى لحظة من لحظات تاريخ الرعب البشرى . لحظة أول رعب نووى بلا حرب تعيشه الإنسانية .و إنى لمؤتمن على هذه اللحظة - ككاتب - فى حدود طاقتى و المتاح لى ( لكونى أجنبياً ) , و من ثم رحت أتعرض لما لا يعلمه إلا الله و السلطات العليا السوفيتية من جرعات إشعاعية . لم أستطع البقاء فى غرفة مغلقة النوافذ حين كان الربيع الشهير فى كل الدنيا - " ربيع كييف " - يزدهر بتوحش .. يتأجج بخضرة كثيفة و زهور و طيور و ثمار شتى تحت مظلة من الرعب النووى المحقق . الرعب اللامرئى الذى كنت فى أعماق قلبى لا أخشاه , ربما لأننى لم أكن أحسه , و أكثر .. لأننى أوقن فى قرارة نفسى أننى ابن موت . واحد من بشر قصار العمر يحيون فى العالم الثالث المكروب , فى الجنوب المتهالك , حيث القاعدة هى الشقاء و الموت المبكر , أما الاستثناء فأن يسعد الناس و يعمرون .”
“و هناك؟! حيث تكاد الشمس لا تغيب و الجليد لا يكون , ما الذى يجعلنا عرضة لارتعاد لا ينقطع ؟ لا ينقطع ! ... أتذكر سقف بيتنا الذى يبدأ فى التساقط و الرشح المذل مع حلول الشتاء . أتذكر وهن أبى و مشيته المرتجفة فوق البلاط البارد . أتذكر حيلة أمى الكسيرة و هى تستعين بلفائف خرق الملابس القديمة تحميها من شر الشتاء .أتذكر يدى نورا الصغيرة الجميلة و أقدامها المزرقة ابتراداً فى الشتاء , أتذكر صقيع زنزانات سجن تجربة المرج و معتقل القلعة و تأديب القناطر , وأستعيد فى عمق عظامى برد الشوارع و البيوت . تطيش فى أفق ذاكرتى صورة لسرب طائرات خاصة تزف ابنة بليونير من الثغر إلى القاهرة . و أوقن إلى أننا فى حاجة إلى أكثر من مجرد شمس فى الأعالى .”
“من الذى قال ذلك عن معنى السعادة ؟ .. إنه هو ذلك المتوحد العائش فى قبو متواضع . المنقطع عن كل طنطنة الدنيا و بريقها ليتواصل مع جوهر روحه و يطلع علينا بالأسفار . صاحب أجل أسفار زماننا و أضخمها . السفر الذى يعلمنا حب النهر و حب الطمى و حب البحر و تفهم الرمال . إنه هو .. أجاب عن سؤال يستكنه معنى السعادة فى مرة نادرة من المرات التى أدلى فيها بحديث . قال :- إن السعادة هى أن أشرب كوب شاى .. مع صديق .. فى لحظة رضا و أنا كنت أحتسى كوب شاى صاف . تطفو على سطحه وريقات نعناع أخضر . مع جميلة كالحلم . فى راحة إيوان ظليل . فهل كنت أطمع فى المزيد ؟ لم اكن أطمع فى المزيد . فقط وددت لو يتوقف بنا الزمان على نحو ما . و لأن ذلك مستحيل فقد سألتها " أنلتقى هنا غداً ؟ " . و أجابتنى باسمة " لم لا ؟ " . فردَّدت روحى صدى الإجابة :- لم لا ؟”
“مشت بجانبي بطيئة على غير عادتها ، و لم نكد نتحرك خطوات حتى توقفت و قالت بصوت حازم : اسمع .. لا أريد أن اراك بعد اليوم .. سامحني و لكن يحسن أن لا نلتقي .. أظن أني احببتك و انا لا اريد ذلك .. لا اريده بعد كل ما رأيته فى هذه الدنيا .و كنت أعرف ما رأته فى هذه الدنيا .. فسكت لحظة .. و قلت : كما تشائين .و راقبتها و هي تبتعد عني بخطوات مسرعة .و لكن تلك لم تكن هي البداية .. فى البدء كان كل شئ يختلف ..!! ”