“ليس هناك قدر محتوم على البشر أن يتحولوا إلى جلادين وضحايا, ولكن أنظمة القمع والاستغلال هي التي تريد إبقاء البشر عند مرساة الحيوانية الغريزية الأولى, وحين يحاولون الخروج من هذه الشروط تثبتهم فيها أو تنزلهم إلى ما هو أحط من الحيوانات من خلال القسر وبأدوات بشرية تتحول هي الأخرى إلى ما هو أحط من الحيوان, فتثبت نظرتها العرقية الفوقية إلى العنف الوحشي لهؤلاء الناس الذين "لم يتجاوزوا مرحلة الحيوانية".”
“ولكن التعذيب بالتدريج يتسبب في حدوث تغييرات في المعذِب ذاته إضافة إلى التغييرات التي تحدث للمعذَب، فقد كان القضاء على الخصم يتم بالقتل، ولكن من خلال التعذيب، ومن خلال التخويف، بمعنى تحذير الناس من أن يفعلوا ما يعرضهم للتعذيب, يتم قتل الخصم، والآخرين، من الداخل من دون قتله، أو قتلهم، جسديا.”
“والجلاد إذا يرى في الضحية - الخصم اذى للبشر لأنه عدو للبشر أو أنه من غير البشر. ولم تكن النظرة العرقية, في البدء, تجعل الجلادين يحسون بأنهم يؤذون بشرا, بل هم يخلصون البشرية من انصاف البشر الضارين (فالنصف الآخر في كل منهم شرير وحقير وغير إنساني ومؤذ للإنسانية) أو هم يروضون أنصاف البشر هؤلاء, كما يروضون الجياد والبغال والحمير, لكي يصبحوا صالحين لخدمة "البشر الأسوياء".وتزداد هذه النظرة إلى الخصم عمقا واتساعا, فلا يكتفي الجلاد, والجلاد هنا ليس فقط ذلك الذي يمارس التعذيب, بل هو الذي يقوده ويوجهه, بأن يرى الخصم حيوانا, بل يرى الطرف الأخر كله (القبيلة الاخرى كلها , الحزب الآخر, الشعب الآخر, القومية الأخرى) حيوانات. ومن هذه النظرة الفوقية الاحتقارية للآخرين تتولد نظرية الامتياز العرقي (الامتياز القومي وشعب الله المختار).”
“إن الانسان بذاته, ومن خلال الممارسات الشنيعة عبر تاريخ الحروب, لم يكن ميالا إلى الحفاظ على حياة هؤلاء, فالحروب تقوم لأهداف يراها القادة والزعماء وتجعلهم يعلنونها ويشنونها, ولكن هذه الأهداف تصل إلى الأفراد بطريقة خاصة تجعلهم مؤهلين للقتل من أجلها في الميدان, غير أن تأهيلهم لهذا القتل لا ينتهي عند استعدائهم على الخصم المحارب لقتله أو إيقاع الهزيمة فيه, بل يمتد إلى قتل الجريح والأعزل والمستسلم ثم المدني المسالم, ما يمكن تلخيصه بالرغبة في ابادة الطرف الآخر ابادة نهائية.”
“وإذا نظرنا إلى الجانب الأفضل من الإنسان وتاريخه نستطيع أن نستنتج أن تاريخ "تطور" البشرية هو تاريخ محاولات الإنسان للابتعاد عن هذا الوحش الكامن في أعماقه, أو عدم السماح له بالنمو على أمل التوصل إلى التخلص منه نهائيا. وهذا الوحش الذي صار قابعا في الأعماق مشكله أساسية من المشكلات التي حاول رجال الفكر والأدب معالجتها, والتي حاولت الأديان ترويضها بالدعوة إلى التسامح والمحبة والإخاء.وسنكتفي بالقول الآن أنه قد تولد في أعماق الإنسان, بفعل هذه الأحوال كلها, "شيء", أو أن هذا الإنسان لم يستطع,وبسبب هذه الأوضاع ذاتها, التخلص نهائيا من "ذلك الشيء" الذي كان فيه, والذي سنقبل الآن بتسميته "الوحش".”
“مجتمعات القمع هي المجتمعات التي تضع هدفها أنه لا بد من أن يتغير شيء ما في الانسان لضمان انصياعه التام والدائم”
“إن منفذ التعذيب, بعد شحنه بفكر معين وعواطف وأحقاد خاصة, يشعر بأنه يؤدي خدمة خاصة "للسلطة التي يحترمها أو يخافها أو يهابها" أو للإيديولوجيا التي يؤمن بها. وهذه السلطة, هنا, هي الحكومة أو الشعب أو الحزب أو الطائفة أو الجماعة (الإثنية). (الخصم "الحر" يجب ان يصنف على أن لا إنساني, كما يقول دافيد كوبر في ديالكتيك التحرر, "وغير الإنساني يصبح غير إنسان .. وبهذا يمكن تدميره تدميرا تاما من دون أي احتمال لشعور بالذنب").ويقول سارتر في تقديمه لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض): "لما كان لا يستطيع أحد ان يسلب رزق أخيه أو أن يستعبده أو أن يقتله إلا ويكون قد اقترف جريمة فقد أقروا (يقصد المستعمرين) هذا المبدأ: وهو أن المستعمَر ليس شبيه الإنسان. وعهد إلى قواتنا (يقصد القوة الاستعمارية الأوربية) بمهمة تحويل هذا اليقين المجرد إلى واقع. صدر الأمر بخفض سكان البلاد الملحقة إلى مستوى القرود الراقية من أجل تسويغ أن يعاملهم المستوطن معاملته الدواب. إن العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على اخضاع هؤلاء البشر المستعبَدين, وإنما يحاول ان يجردهم من إنسانيتهم".”