“الذين يفرضون التعذيب يريدون أن يحققوا ما هو أكثر من ذلك, يريدون أن يوصلوا الضحية إلى أقصى حالات الضعف والألم ومن ثم التذلل, وحين يفشلون يخيب أملهم, وهذا الفشل إما ينجم عن الضربة القاتلة الخاطئة التي يضربها الجلاد, وإما أن ينجم عن قرار الضحية واختياره الموت .. الموت بلا توجع وتذلل. ولعل "الطريف" في مسألة التعذيب, إن كان في هذا الأمر ما يمكن وصفة بالطرافة, هو أن من أصول لعبة التعذيب أن يتقن الجلاد عمله فلا يتسبب في موت الضحية, الموت الداخلي هو المطلوب وليس الموت الخارجي والجسدي.”
“ولكن التعذيب بالتدريج يتسبب في حدوث تغييرات في المعذِب ذاته إضافة إلى التغييرات التي تحدث للمعذَب، فقد كان القضاء على الخصم يتم بالقتل، ولكن من خلال التعذيب، ومن خلال التخويف، بمعنى تحذير الناس من أن يفعلوا ما يعرضهم للتعذيب, يتم قتل الخصم، والآخرين، من الداخل من دون قتله، أو قتلهم، جسديا.”
“إن اختناق الناس لوجود الرجل المعلق على الخازوق هو تشبث بالكرامة الإنسانية, فمشهد الألم المستمر إذلال إنساني, أما الموت فهو راحة له, ومن ثم لهم. الموت إذا يساعدهم على اصطفاء بطلهم. وهو الذي يساويهم بالبطل فالناس كلهم متساوون أمام الموت ومعرضون له بالمقدار ذاته, ولكن الألم والتوجع يظهران ضعف الإنسان من جهة, ويمنحان الخصم فرصة للتشفي وللتمتع بانتصاره وتفوقه من جهة أخرى. إن تعذيب الضحية فصل أخير وحقير من فصول المواجهة بين الخصمين حيث يتحكم الطرف الأقوى بالوضع. ويستعرض أمام الآخرين, الذين قد يكونون أعداء أو أصدقاء أو رعية محايدة, ما يستطيع أن يفعله حين يتحكم:"لا تظنوا أنه يمكن أن يأخذني بأحد شفقة".”
“يتجاهل المستغِل,دوما , اسباب ما يسميه "غرائز العنف" لدى المستغَل. ولا يرى فيها, كما يقول سارتر في تقديم (معذبو الأرض) فسوته هو (أي قسوة المستغِل) وقد ارتدت وانقلبت عليه. ولا يرى في وحشية هؤلاء الفلاحين المضطهدين وحشيته هو وقد امتصوها بجميع المسام واصبحوا لا يستطيعون أن يبرؤوا منها.قلنا إن القناع الذي يحاول المضطهِد إحفاء توحشه وراءه هو أن الطرف الآخر (الضحية) ليس إنسانا, أو ليس إنسانا سويا. ومع أن "إنسانية" الإنسان السوي قد وصلت إلى درجة تشكل جمعيات للرفق بالحيوان فقد ظلت "حيوانية" الضحايا سببا كافيا لكل أنواع التعذيب والتنكيل والتشريد والقتل والإبادة.”
“الضحية تموت مرّة بفضل الجلاد ، لأن ميتة المرة هي التي تحرر من الموت ألف مرة . أما الجلاد فيموت كل يوم مراراً لأن الخوف من الموت هو الموت !”
“وإذا نظرنا إلى الجانب الأفضل من الإنسان وتاريخه نستطيع أن نستنتج أن تاريخ "تطور" البشرية هو تاريخ محاولات الإنسان للابتعاد عن هذا الوحش الكامن في أعماقه, أو عدم السماح له بالنمو على أمل التوصل إلى التخلص منه نهائيا. وهذا الوحش الذي صار قابعا في الأعماق مشكله أساسية من المشكلات التي حاول رجال الفكر والأدب معالجتها, والتي حاولت الأديان ترويضها بالدعوة إلى التسامح والمحبة والإخاء.وسنكتفي بالقول الآن أنه قد تولد في أعماق الإنسان, بفعل هذه الأحوال كلها, "شيء", أو أن هذا الإنسان لم يستطع,وبسبب هذه الأوضاع ذاتها, التخلص نهائيا من "ذلك الشيء" الذي كان فيه, والذي سنقبل الآن بتسميته "الوحش".”
“ان تصورنا للإنسان الذي يجب ان نكونه أمر ليس مستحيل التحقق, حتى وهو صادر عن تصور أدبي ذهني.ولكن هذا التصور يجعلنا, حين نرى واقعنا الذي نعيشه, نتلمس حجم خسائرنا في مسيرتنا الإنسانية. وهي خسائر متراكمة ومستمرة, طالما أن عالم القمع والإذلال والاستغلال قائم ومستمر. وستنتهي بنا إلى أن نصبح مخلوقات من نوع آخر كان اسمه "الإنسان", أو كان يطمح إلى أن يكون إنسانا, ومن دون ان يعني هذا, بالضرورة, تفيرا في شكله. إن التغير الأكثر خطورة هو الذي جرى في بنيته الداخلية العقلية والنفسية.”