“تضع يديها على كتفي وتضغطني إلى الأسفل طالبةً مني أن أتربع على الأرض. أستجيب من دون أن أعرف مرادها. تجلس فوقي وتضع أصابعهاعلى قرعة رأسي. تبدو برأسها كالدجاجة المنحنية على صوص. "وْلُك شو عم تعملي، ليش مركّزة براسي متل البسينات؟" تضحك. "ولُك روق"، تقول. "عندك شاميّة كبيرة هون. نابقة لبرات راسك. منيح اللي ما جرحك الحلاق وهوي عم يحلقلك راسك". "وين وين؟"، أسألها. تستمر بالضحك. "ولُكْ ما بتعرف إنو عندك شامية؟ حدن ما بيعرف راسو؟" تنهض وهي تضحك عائدة إلى كمبيوترها، وأبقى أنا أكتشف رأسي لأول مرة. ”
“سألاحظ الأشخاص أسفل نافذتي الموجودة على يميني. البائع الذي يصبِّح على جاره علانيةً ويهمس شاتماً لما يدخل إلى محله. نسب التنزيلات الملصقة على واجهة محلات الألبسة وهي تكثر وتقل، تكبر وتصغر. زمير أبواق السيارات وزحمة الشارع. النزلاء في الفندق المقابل وهم يغلقون ستائر غرفهم. أسراب الحمام في سماء الشارع الضيق، تمر سويةً وترحل معاً بإشارة من رجل على سطح بناء قريب. تلك الجارة التي لا تنتبه إلى الستارة المفتوحة إلا بعد أن تخلع بنطالها، ويبين لباسها الداخلي. طاولة الطعام التي يتجمع عليها أفراد عائلة من ذووي الملامح الصامتة. الولد الشقي الذي يدخل رأسه في فتحة الدرابزين الحديدي وينادي لأخته كي تساعده في إخراج رأسه الذي علق. عادةً ما يستغرق الأمر خمس دقائق قبل أن تدخل الفتاة لتخبر أمها وتأتي الأم مستشيطة غضباً. سأشاهد الخادمة، سريلنكية الجنسية، وهي تتواصل مع صديقتها السريلنكية في البناية المقابلة. الكلمات في لغتهما الهجينة تمر في الفضاء بين البنايتين. سأتابع "سيدتها" وهي تخرج مجابهةً إياها بشتائم من العيار الثقيل، لأنها "تقلل من مستواها". ”
“أعرف مثلاً أنني -يوماً ما- سأقضي حياتي متنقلاً بين شقة وأخرى في المناطق التي لم أعش فيها يوماً في هذا البلد وتبدو لي غريبة. برج حمود مثلاً. المجتمع الأرمني يجذبني. ربما لأنني لا أعرف عنه كثيراً. يجنح بي الخيال لأرى نفسي في حضرة عجوز أرمنية في كرسي هزاز فيما أنا تحت قدميها، أجلس القرفصاء وأستمع لحكاياتها التي لا تنتهي عن بطل أرمني ما ذبحه الأتراك.وستخبرني العجوز الأرمنية عن الرمّان وهي تقدم لي بعض حبوبه. تقول لي أن كوز الرمان يحوي 365 حبة. تقول لي أن الرمان أنقذ العائلات الأرمنية من الموت المحتم في زمن الأتراك. في الكهوف جلسوا. كلٌّ بيده رمانة. حبة واحدة كل يوم. حبة تبعد الموت لعام كامل. هل هذا صحيح؟ الأرجح لا. لكنّ قصة الرمانة تبقى، شأنها شأن كل القصص، شأنها كل المشاهد التي رأيتها والتي لستُ حتى واثقاً من حدوثها فعلياً.”
“قالت إنّ الأشياء حولنا محايدة. إنّها سواء. نحن من نرفعها إلى مراتب عليا أو نهوي بها إلى تحت. حتى التقزّز، هو تعريفنا. حتى الأخلاق، هي تعريفنا. الصحّ تعريفنا، والخطأ تعريفنا. ونحن من ننهمك بتعريف غيرنا من دون أن يعني ذلك التعرّف على من عرَّفناه. نحن نعقّد الأشياء ونبسّط العلاقات فيما بينها. نقوم تمامًا بعكس الحقيقة. الأشياء بطبيعتها بسيطة، لكن تتواجد ضمن حلقة علاقات معقدة. أنت لمّا تكتب، تعقّد الأشياء، وتبسّط العلاقات. الرواية تبسيط، قالت. هل تستطيع أن تنكر؟”
“-إنت شو بتقول؟- بعمري ما حزرت شي.- جرّب، بركي بتحزر هالمرّة.”
“- عم تحلم! حرب؟ ح تكون باهتة. بتزهّق. كل اللي بدو يصير، صار بهالبلد. كل اللي ح ينعمل معمول قبل.- بس هيدا مش معناتا انو مش ح ينعمل عن جديد!”
“أنتظر شيئًا لا أعرف ما هو. أعرف أنه آتٍ، وأنتظر!”