“انحلال العلاقات التفليدية للعصبية اذا لم يسنده ظهور عصبية جديدة اعلى او اسمى تعطي للفرد المنفصل عن الاسرة او العشيرة او الطائفة شعورا بالحماية والامن والمساواة, يظهر كما لو انه تخل عن الذات وتشريد واستلاب وضياع محض. فالفرد بحاجة الى اطر اجتماعية تستطيع ان تستوعب حاجاته ومشاعره وتقدم له بين افراد الجماعة وضعية يرضى عنها ومعايير يقيس ذاته بها ووسائل تتيح له تحقيق هذه الذات وتنميتها, فهذا التحقيق لا يمكن ان يكون الا جماعيا.”
“لكن من جهة اخرى لم تتحقق ايضا واقعيا الاسس الموضوعية الفعلية لقيام ذاتية دهرية تتجاوز الدين والطائفية وتدفع الى نشوء مشاعر تضامن محلي قومي بغض النظر عن الاصول الاجتماعية او المذهبية. وكان يمكن لمثل هذه الذاتية ان تتطور فعليا لو تحققت دولة عربية واحدة كفيلة بتطوير ثقافة عربية مشتركة ومتجددة تقوم على المساواة الفعلية وتكافئ الفرص بين افراد الجماعة. لكن الوعي الدهري ظل محصورا في فئة اجتماعية ضيقة او انه بقي لدى الطبقات الوسطى قشرة بسيطة تغطي الوعي الديني الجماعي السابق.”
“نستطيع ان نقول اكثر من ذلك ان الدولة - الامة اي الدولة القومية فعلا لا يمكن ان تقوم الا اذا كانت دولة تبني شرعيتها على تحقيقها للمطابقة والتماثل الثقافيين للجنس او للعرق. بل على دعوة اجتماعية قابلة للتحقيق ولتقديم الحلول والوسائل الكفيلة بتنظيم الحياة الاجتماعية وتقدم الجماعة. والدولة القومية التي تربط شرعيتها وتقدم شعبها بمجرد كونها مطابقة في حدودها لحدود التجانس الثقافي او العرقي, تلغي اسس شرعيتها كدولة, اي كمؤسسة سياسية تتجاوز التمايزات الثقافية والجنسية في المجتمع المدني, ولا تقوم الا بهذا التجاوز. والدولة التي تفترض نفسها الانعكاس المباشر للجماعة. او للمجتمع المدني, هي بالضبط الدولة التي تغطي فشلها السياسي بانغلاقها الثقافي, اي تغطي عجزها عن ان تكون سلطة فوق المجتمع المدني بتسمية نفسها دولة الشعب, وبالانخراط في المجتمع المدني نفسه وفي تناقضاته. وذلك بدل الارتفاع الى المستوى الذي يسمح بحل هذه التناقضات وتسويتها.”
“ان مشكلة الاقليات هي بالدرجة الاولى مشكلة الاغلبية.اي مشكلة المجتمع العام ذاته. وليست المسالة الاساسية التي تستحق النقاش هنا هي مسألة توجه الاقليات الدينية العربية الى التمايز وتكوين طوائف مستقلة تطمح الى الحفاظ على ذاتيتها. فهذا هو الطابع التاريخي والمنطقي لوجود كل اقلية اجتماعية والا فقدت كونها اقلية ولم يعد هناك اية مشكلة. اذا كنا نعترف ان هناك اقليات فلأننا نعترف ان هناك داخل الجماعة الكبرى جماعات لها فعلا تقاليد متميزة نسبيا عن الجماعة الكبرى وليس لنا ان نطالبها بالتخلي عن هذا التمايز الثقافي دون ان نلغي حقنا في ان يكون لدينا ذاتية ثقافية. لا نستطيع اذن ان نلغي التاريخ بالايمان بضرورة قومية او سياسية ولكننا نستطيع ان نفهم كيف يقود التاريخ الى تكوين الحقيقة القومية السياسية.”
“تحقيق الهوية لا يمكن ان يتم الا اذا وجدت ثقافة قابلة لان تكون قاعدة لاجماع عقلي وهذا يتطلب سياسة ثقافية تملك وسائل تحقيقها المادية والمعنوية. وهو لا يمكن ان ينجح بفرض ثقافة عليا مهما كانت عقلانيتها او علمانيتها. وكذلك فيما يتعلق بالسلطة المركزية فالاشتراك السياسي وتعميم المساهمة في اتخاذ القرارات التي تخص مصير الجماعة لا يمكن ان يتطور الا اذا توفرت الوسائل المادية والفنية والمعنوية لتحقيقها, وليست الديمقراطية اليونانية المبنية على الاقتراع العام الا الاشكال التاريخية التي عبرت من مرحلة من المراحل عن تطور نوع من المشاركة السياسية الشعبية الرامية الى بناء سلطة مركزية مشروعة, واغلب الظن لن يكون من الممكن تقليدها مرة ثانية, اذ من شأنها في كثير من الحالات ان تنتج عكس ما كانت مكرسة لانتاجه: اي ان تغلق الباب امام امكانية المشاركة الشعبية. وقد رأينا ذلك في الديمقراطيات التي بدل ان تحطم العلاقات العصبوية كرستها وسدت النظام السياسي امام القوى الاجتماعية المختلفة او الناشئة.”
“تبدأ المشكلة الحقيقية عندما يصبح لهذا التمايز الثقافي وجود سياسي مميز, اي تصبح الاقلية او الطائفة حزبا سياسيا وقناة السلطة. وتتعقد المشكلة اكثر عندما ترتبط هذه الجماعة بقصد الدفاع عن نفسها او لأسباب تاريخية موضوعية خارجة عن ارادة كل فرد فيها بسلطة استبدادية او بدولة اجنبية مهيمنة عالميا. عندئد تصبح عملية رفض التمايز الثقافي لهذه الجماعة سهلة للغاية. وتستطيع الاغلبية ان تغطي رفضها لهذا التمايز برفض نتائجه السياسية. اي عن طريق اتهام الجماعة الاقلية بالتعامل مع الاجنبي. وهكذا بقدر ما تستخدم الاقلية تمايزها كوسيلة لتحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية تجد الاغلبية في تحقيق هذه المصالح حجة لتصفية وجودها السياسي, ووسيلة لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية جديدة.”
“لا بد من التخلي عن الاعتقاد السائد الذي يرجع الطائفية الى التمايز الثقافي او الديني الموجود في مجتمع من المجتمعات. فهذا التمايز الذي يوجد في كل البلدان يمكن ان يكون اساسا للغنى الثقافي والانصهار كما يمكن ان يكون وسيللة للتفتت. واذا بقينا على هذا الاعتقاد السائد اضطررنا الى البحث عن حلول للمشكلة على المستوى الثقافي وحده وهنا لن تجد اي مخرج على الاطلاق.فالطائفة الاكبر تميل الى الاعتقاد ان تصفية التميزات الثقافية هو شرط الوصول الى اجماع يخلق الوحدة والانصهار. وتكمن وراء ذلك فكرة ان فقدان الاجماع السياسي مصدره غياب اجماع فكري او ديني بينما العكس تماما هو الصحيح. والبعض يمكن ان يفكر ان هذا وحده يمكن ان يساعدنا على ان ننتقل من الصراع الطائفي الى الصراع الطبقي ويفتح من ثم طريق التغيير والتحول والتقدم. اما الطوائف الصغرى فتميل ايضا, من نفس المنطلق الى تضخيم مشكلة التمايز الثقافي وتأكيدها لتحويلها الى مشكلة هوية شبه قومية مصغرة واداة سياسية وتعويض عن السلطة الفقودة كفردوس. وهذا يعكس في الحقيقة ميل الصراع الاجتماعي في مثل هذا المجتمع بشكل عام الى ان يحافظ على شكله كصراع عصبوي ودائري.”