“كنا سبعة من إفريقيا و آسيا وأمريكا اللاتينية ... "تايو" من زائير، و"ريتشا" من الكونغو، و"على" من اليمن، وأنا من مصر ،و"كاى" من كمبوديا، و"مناف" من بنجلاديش،ومن كولومبيا "خوان" .. ورحنا نملى متوسط الأعمار فى بلادنا .. وكان الناتج 36 عاما للفرد .. فى حين كان متوسط العمر بيننا 27 عاما .. فلو كان سرطان الإشعاع يقتل فـ عشر سنين ، فإننا سنموت قبلها بوسيلة أو بأخرى من وسائل العالم الثالث الشائعة : الأوبئة ، المجاعات، الفيضانات، القحط، السجن، والحروب الأهلية ... أليس كذلك”
“ كنت أحس بأن يد الله قد ألقت بى فى تجربة فى لحظة من لحظات تاريخ الرعب البشرى . لحظة أول رعب نووى بلا حرب تعيشه الإنسانية .و إنى لمؤتمن على هذه اللحظة - ككاتب - فى حدود طاقتى و المتاح لى ( لكونى أجنبياً ) , و من ثم رحت أتعرض لما لا يعلمه إلا الله و السلطات العليا السوفيتية من جرعات إشعاعية . لم أستطع البقاء فى غرفة مغلقة النوافذ حين كان الربيع الشهير فى كل الدنيا - " ربيع كييف " - يزدهر بتوحش .. يتأجج بخضرة كثيفة و زهور و طيور و ثمار شتى تحت مظلة من الرعب النووى المحقق . الرعب اللامرئى الذى كنت فى أعماق قلبى لا أخشاه , ربما لأننى لم أكن أحسه , و أكثر .. لأننى أوقن فى قرارة نفسى أننى ابن موت . واحد من بشر قصار العمر يحيون فى العالم الثالث المكروب , فى الجنوب المتهالك , حيث القاعدة هى الشقاء و الموت المبكر , أما الاستثناء فأن يسعد الناس و يعمرون .”
“أنظر فى عينيه مباشرة بإحساس يتصاعد بالشفقة إلى حد الابتسام , فيبادلنى الابتسام الشفوق , و ما يلبث ابتسامنا المتبادل حتى يأخذ شكل برهة من الرضا , هذا الرضا الذى يسرُّ أن :- مع ذلك , ورغم ذلك , يظل وجودنا فى هذه الحياة على تكاثر آلامها و تضاؤل و ابتعاد أصغر الأمانى فيها .. يظل جديراً ببعض الفرح .. على الأقل فرح التنفس من هواء الصبح الطازج كل يوم جديد .. أليس كذلك ؟أليس كذلك ؟ أسأله بإيماءة مبتسمة فيجيب علىَّ مبتسماً بمثلها , ثم أكرر سؤالى بصوت مسموع و أنا أستدير متأهباً للخروج , لكن إجابته لا تأتينى . فيبدو لى وكأنه تبخر مع سريان تيار الهواء الصباحى الذى اكتسح الغرفة آتياً من النافذة المفتوحة إلى الباب المفتوح .و أفكر فى أنه اختفى أيضاً من صفحة المرآة التى استدرت للتو عنها”
“فى العالم مائة مليون لغم أرضى فى 62 دولة من دول العالم الثالث ،،، من بينها مصر، لبنان، الكويت، العراق، و اليمن ... نحن كذلك - أنيس منصور”
“أنت عربى وبينك وبين الصهيونية بحر من الدم و المرارة و الألم.لكنك مثقف انسانى أيضا.يفزعك الخلط، فأنت تعشق "كافكا" و كتاب (تفسير الأحلام) وجمالية نسبية "أينشتاين"،وتعجبك بافتتان جداريات "شاجال" .يفزعك الخلط.وتشعر بنواة الانقلابات المريرة فى كل صوت عال.فى كل صوت سوقى.وتبتعد غير مطمئن تفكر فى احتمال أن يكون الصهاينة أنفسهم هم المشعل الخفى لهذا الفتيل؛حتى يتزايد عدد المهاجرين من اليهود السوفييت الى اسرائيل بدعوى الرعب من نار اللاسامية. لم لا؟ يفزعك الخلط و أنت تمضى فى الطابور الخارج من هذه البؤرة،و تفكر فى آفاقها.هل تبقى مجرد بؤرة للتنفيس،أم أن هذه عينة من وجع كبير فى هذا البلد الكبير..الثقل الكبير فى ميزان العالم الذى سيسحقنا-أول ما يسحق- اختلاله؟..وتمضى بعلامات استفهامك المعلقة..تروم مكانا فسيحا تتنفس فيه أحسن،بعيدا عن هذا الزحام.”
“هل هناك أحط من ملحد يتسربل ببعض من كتاب قديم لينال "امتياز" أحد أبناء "شعب الله المختار", و يقتل الآخرين "الكلاب و الحمير" دون أن يهتز في قلبه وتر؟”
“و هناك؟! حيث تكاد الشمس لا تغيب و الجليد لا يكون , ما الذى يجعلنا عرضة لارتعاد لا ينقطع ؟ لا ينقطع ! ... أتذكر سقف بيتنا الذى يبدأ فى التساقط و الرشح المذل مع حلول الشتاء . أتذكر وهن أبى و مشيته المرتجفة فوق البلاط البارد . أتذكر حيلة أمى الكسيرة و هى تستعين بلفائف خرق الملابس القديمة تحميها من شر الشتاء .أتذكر يدى نورا الصغيرة الجميلة و أقدامها المزرقة ابتراداً فى الشتاء , أتذكر صقيع زنزانات سجن تجربة المرج و معتقل القلعة و تأديب القناطر , وأستعيد فى عمق عظامى برد الشوارع و البيوت . تطيش فى أفق ذاكرتى صورة لسرب طائرات خاصة تزف ابنة بليونير من الثغر إلى القاهرة . و أوقن إلى أننا فى حاجة إلى أكثر من مجرد شمس فى الأعالى .”