“كان كلود برنار من الشخصيات النبيلة حقا في مسار العلم وفلسفته على السواء . تخرج في كلية الطب ، وتنازل تماما منذ بدء حياته العملية عن الممارسة الإكلينيكية والعمل في العيادات ، مضحيا بفرص الكسب المالي لكي يتفرغ تماما للبحث العلمي في الفيسولوجيا . تكرس له طوال حياته ، حتى بعد أن وهنت صحته وغزاه المرض كان يحمل إلى قلب معلمه . علّم البشرية كيف يكون التفاني بين جدرانه كما يتبتل العابد الصوفي في محرابه . لم يكن يتوقف إلا إذا قهره الإرهاق . وذات مرة طلب فنجانا من الشاي ليقاوم الإرهاق ويجدد نشاطه ، وبهدوء وضعه الخادم الذي تعلم ألا يقطع تركيزه ، امتدت يد برنار إلى الفنجان ، لكنه سحب كأسا به عينه من بول أرنب جيء بها من أجل التجارب على فيسولوجيا الجهاز الهضمي . الوعي كله مكرس للتجربة العلمية ، وبلا وعي أخذ برنارد رشفة من بول الأرانب ! ربما انتفض الإنسان العادي اشمئزازا وتقززا إن حدث هذا ، لكن العالم المتبتل برنارد انتبه فجأة على خبرة تجريبية لا تعوض ، فلم يهدرها . ولاحظ المذاق السكري لبول الأرنب التي لم تتناول طعاما منذ فترة . طرح برنارد السؤال : من أين جاء المذاق السكري ؟ وللإجابة عنه دخل في سلسلة أبحاث معملية طويلة انتهت إلى اكتشاف وظيفة البنكرياس ومرض البول السكري الذي يعاني منه الكثيرون .”
“إن الحب كقيمة مطلقة سرٌ كبيرٌ من اسرار الدنيا ، لا يعيه إلا الإنسان المحظوظ النقي القادر دوماً على تجديد شباب قلبه بالعطاء والتسامح. يبدأ الإنسان منا حياته متدفقاً بالحب والحنان والتفاؤل والثقة ثم يجف هذا النبع العاطفي في قلبه كلما كبر ، ويتحول مع الزمن إلى عجوز أناني بخيل لا يحس إلا مصلحته ولا يجري إلا خلف منفعته ، والسبب أن أحلامه الصغيرة وعواطفه الصافية تصطدم مرة بعد مرة بما يخيب أمله ويزلزل ثقته في الدنيا وفي الناس -يتعثر الإنسان في مشوار حياته ومع تكرار العثرات والتجارب الفاشلة لا يجد في قلبه رصيداً يغطي هذا الفشل ، ويحفظ له ابتسامته وتفاؤله فيفقد النضارة ويجف ويقسو ، ويتحول سخطه إلى سخط على الدنيا كلها والسبب أنه لم يجد كفايته من الحنان ، لم يجده في الدنيا ولم يجده في قلبه فأفلس . والدليل على هذا أن القلب الكبير لا يحدث له هذا الجفاف مهما كبر وشاخ لأنه يجد في نفسه القدرة على بذل الحنان دائماً مهما حدث له ومهما تلقى من صدمات . وبهذه القوة وحدها يسترد حب الناس الذي فقده ويسترد ثقته في الدنيا”
“الذي أدريه الآن يقيناً، أن من يصعد إلى هذا المرتقى يوماً، لا يعود كما كان من قبل الارتقاء، ويظل يهفو أبداً إلى هذا الارتقاء، لهذا لم أعد أرى في جنون متسلقي قمم الجبال جنوناً، بل هي رغبة مطلقة في الانعتاق من شقاء العالم الأرضي وملامسة مطلق النقاء الذي لم يمسسه بشر أو لم يلوِّثْه بعد.”
“للوهلة الأولى أدرك أنه أمام إنسان محطم تماما.. إنسان خلق ليتعذب حتى الموت.. لا يصادفه المرء كثيرا في الحياة.. خيل إليه أن هذا الإنسان ملحوم في أكثر من مكان لأن به عديدا من الشروخ وانه يمكن أن يتفسخ بين أصابعه بسهولة شديدة إذا لم يمسكه بحذر تام، لكنه لم يستطع للحظة خاطفة أن يقاوم رغبة شريرة آثمة في أن يضحك من هذا الإنسان الغريب الملامح كأي رجل آخر في العالم.. هذه الرغبة التي لا يمكن مقاومتها.. الإنسانية تماما”
“إن الإسلام لم يشأ أن تكون وسيلته إلى حمل الناس على اعتناقه هي القهر والإكراه في أي صورة من الصور، حتى القهر العقلي عن طريق المعجزات لم يكن وسيلة من وسائل الإسلام كما كان في الديانات قبله، من نحو الآيات التسع لموسى والكلام في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى. لقد شاء الإسلام أن يخاطب القوى المدركة في الإنسان، ويعتمد عليها في الاقتناع بالشريعة والعقيدة، وذلك جريا على نظرية الكلية في احترام هذا الإنسان وتكريمه.”
“الدلائل كلُّها تشير إلى أن فينا، في أعماقنا، غور سحيق نكفُّ فيه عن النظر إلى الحياة والموت، إلى الماضي والآتي، إلى الجسد والروح، كمتناقضات. قال ذلك شاعر كان صديقي، ربما لم يكتب في حياته بيتًا واحدًا، لكن حياته كلَّها كانت قصيدة. وقاله غيره كثير – قاله البشر منذ آلاف السنين ألف ألف مرة، ونسوه ألف ألف مرة. إن مثل أنْفَس المعارف التي تنكشف لنا كمثل النجوم: تولد، فتتألق، ثم يخبو نورُها، حتى تولد من جديد.”