“و سيظل عسيرا على العالم العربي ، أن يستوعب مدى تعلق أعاجم المسلمين بدينهم ، ما لم يدرك حقيقة المشاعر الجياشة التي تعمل بين جنبات تلك الملايين المؤمنة . المبعثرة بين "غانه وفرغانه" بتعبير الجغرافيين العرب القدامى ، أولئك الذين تلقوا الإسلام منذ قرون ، ثم تقطعت بيننا و بينهم السبل ، بعد إذ تغيرت خرائط التاريخ و أقيمت حوائط الجغرافيا . لكنهم ظلوا قابضين على الجمر . قلوبهم تتحرق شوقا إلى وصل ما انقطع مع ديار الإسلام ، و أحلامهم العطشى - و أبصارهم - تعلقت بالعالم العربي . الذي هو عندهم منبر الإسلام و بيته ، و فيه كعبة المسلمين و قبلتهم .”
“رابعة تلك الملاحظات أن الإيرانيين لم يكونوا على استيعاب كاف لتطورات الوضع العربي ، التي هي في مجملها أقرب إلى السلب منه إلى الإيجاب ، ذلك أنه حتى قرب نهاية الستينات كانت للجماهير العربية قيادة متمثلة في جمال عبد الناصر . و كانت قيم النضال ضد الاستعمار و الثورة لاستخلاص الحقوق مما تبناه الشارع العربي و وقف وراءه . كان للجماهير العربية حضور ، فضلا عن أنه كانت ثمة قيادة تعبر عن ضمير تلك الجماهير و طموحتها . ابتداء من السبعينات تغيرت تلك الصورة ، غاب الرمز و غاب دور الشارع . و ظهرت خريطة من القيم السلبية الجديدة في الواقع العربي ، تتبنى الإنحياز إلى المعسكر الغبي من ناحية ، و ترفع شعارات الإقليمية و التجزئة من ناحية أخرى . و بدأت في العالم العربي مرحلة "الأنظمة" التي تعاظم دورها على حساب دور الشارع و الجماهير . هذه الظروف في مجموعها كان لها تأثيرها الضروري على القيادة الفلسطنينة . كان لابد لتلك القيادة أن تتعامل مع الواقع العربي بمتغيراته السلبية ، إذ لم تكن في موقف يسمح لها لا بتحدي هذا الواقع و لا بتغييره . و هذا ما لم تدركه القيادة الإيرانية ، و حاسبت الفلسطينيين من منطلق خاطيء تماما ، منفصل عن تلك المتغيرات في الواقع العربي .”
“إن الذين لا يرون في الإسلام إلا قائمة محرمات و ممنوعات في جانب ، ثم لائحة عقوبات و زواجر في جانب آخر، يفعلون بالإسلام تمامًا كما فعل الدب الذي أراد أن يحمي صاحبه فقتله ، و إن كانت النتيجة أفدح . ذلك أن المجني عليه في القصة الشهيرة هو مجرد فرد واحد ، و لكن المجني عليه فيما نحن بصدده هو عقيدة بأكملها !إن هؤلاء يصغرون من شأن الإسلام من حيث لا يشعرون . يحولونه من رسالة هداية للبشر و رحمة للعالمين إلى فرمانات إلهية ، تأمر و تنهى ، و توزع طوابير الناس على درجات جهنم ، حتى أسفل سافلين !”
“و ربما كانت الإيجابية الوحيدة للصراع الذي دار بين الإسلاميين و غيرهم بعد نجاح الثورة ، أنه أسهم بطريق غير مباشر في توحيد الصف الإسلامي و استمرار تماسكه ، و لكن حسم ذلك الصراع لصالح الإسلاميين هيأ الفرصة لظهور ما كان مخفيا أو منسيا بينهم من عناصر التمايز أو التناقض ، و هو أمر ليس مستغربا في تجارب الثورات ، تبدأ بخصومها ، ثم حلفائها ، ثم تدور الدائرة على صناعها ، إلى أن يستقر الأمر لفرد أو لفريق متجانس تماما في الأهداف أو الطموح.”
“إن أحد المآخذ الأساسية التي تحسب على أكثر الحركات الإسلامية المعاصرة أنها تعاني من خلل مفجع في ترتيب الأولويات التي توجه إليها نشاطاتها ، ومن غرائب الأمور أن هؤلاء تشغلهم قضية إطلاق اللحى -مثلاً- بأكثر مما تشغلهم قضية إطلاق الحريات ! و قد أدى بهم ذلك إلى أنهم عزلوا أنفسهم عن آمال الجماهير و طموحاتها . كما عزلوا أنفسهم عن فصائل النضال الوطني ، إذ اختاروا جبهة شديدة التواضع ، و مضوا يقاتلون عليها .. و يقتلون !و هي مفارقة مدهشة أن يخوض حملة الإسلام يوم نزلت الرسالة معركتهم الأساسية لصالح تحرير الإنسان من الوثنية و الشرك ، وثم يدور الزمن ، و تمضي 14 قرناً و إذا بمعارك أكثر حملة راية الإسلام تدور حول اللحى و موضع الساعة في اليد اليمنى أم اليسرى ، و المفاضلة بين البنطلون و الجلباب !”
“و إذا كان الشعور بالولاء قد دفع الألوف من مسلمي الهند إلى هجرة أهلهم و ديارهم إلى أفغانستان عندما خاضت بريطانيا الحرب ضد الخلافة العثمانية ، معتبرين أن بلادهم - و هي المستعمرة البريطانية - قد صارت "دار حرب" واجبة الترك ، فإن الشعور بالانتماء دفع الإيرانيين للذهاب إلى ما هو أبعد ، إذ اعتبروا أن استمرار الاغتصاب الإسرائيلي لفلسطين بمثابة عدوان على ديار الإسلام . يظل رده مسئولية كل مسلم . فوقفوا دون تردد إلى قضية الثورة . و اعتبروا منذ للحظة الأولى أن مكانهم الطبيعي في الخندق الفلسطيني . واستعصى عليهم - ولا يزال - أن يفهموا غير لغة النضال المسلح ضد اسرائيل ، بقدر ما أنهم لم يتصوروا لهم مكانا خارج المربع الفلسطيني .”
“المشروع الايراني ليس بالضرورة النموذج الحضاري الواجب الاحتذاء ، غير أن أهم ما فيه ينطلق من الاصرار على الانعتاق من سلطان الغرب ، و العودة إلى الذات الحقيقية . أما "متى" يمكن أن يتبلور المشروع ، و "مدى" نجاحه أو إخفاقه ، فذلك شأن آخر .”