“أذكر أننى تجولت فى مصانع السكر، ورأيت الأنابيب الطافحة بالعصير، والأفران المليئة بالوقود، والآلات التى تغطى مساحة شاسعة من الأرض، لقد قلبت البصر هنا وهنالك ثم قلت: سبحان الله ! إن بطن نحلة صغيرة يؤدى هذه الوظيفة .. وظيفة صنع السكر دون كل تلك الأجهزة الدوارة والضجيج العالى ! وخيل إليّ أن المخترعات البشرية لا تعدو أن تكون إشارة ذكية إلى ما يتم فى الكون بالفعل من عجائب دون وسائط معقدة وأدوات كثيرة . ولو أن البشر أرادوا بناء مصنع للف الحبات النضيدة فى سنبلة قمح بالقشرة التى تحفظ لبابها لاحتاج الأمر إلى حجرة كبيرة تحت كل عود ! لكن ذلك يحدث فى الطبيعة فى صمت وتواضع ! والمقارنة التى عقدناها هنا تجاوزنا فيها كثيراً، فإن الإنسان المخترع هو بعض ما صنع الخلاق، والمواهب الخصبة فيه بعض ما أفاء الله عليه .. وكأنما أراد الله الجليل أن يعرف ذاته وعظمته للإنسان الذى أنشأه، فهداه إلى بعض المخترعات ؛ ليدرك مما بذل فيها كيف أن الكون مشحون بما يشهد للخالق بالاقتدار والمجد . .. إن ميلاد برتقالة على شجرة أروع من ميلاد “ سيارة “ من مصنع سيارات يحتل ميلاً مربعاً من سطح الأرض . ولكن الناس ألفوا أن ينظروا ببرود أو غباء إلى البدائع لأنها من صنع الله، ولو باشروا هم أنفسهم ذرة من ذلك ما انقطع لهم ادعاء ولا ضجيج .. إننى عرفت الله بالنظر الواعى إلى نفسى وإلى ما يحيط بى، وخامرنى شعور بجلاله وعلوه وأنا أتابع سننه فى الحياة والأحياء . وبدا لى أن أستمع إلى ربى فى الوحى الذى أنزله .. إذ لا بد أن يكون هذا الوحى حديثاً ناضجاً بما ينبغى له من إعزاز وحمد ! كان أقرب وحى إلى هو القرآن الكريم لأننى مسلم، فلما تلوته وجدت التطابق مبيناً بين عظمة الله فى قوله، وعظمته فى عمله . سمعته يقول: “ الله خالق كل شىء، وهو على كل شىء وكيل، له مقاليد السموات والأرض .. “ [الزمر: 62، 63] “ الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تفيض الأرحام وما تزداد، وكل شىء عنده بمقدار، عالم الغيب والشهادة، الكبير المتعال .. “ [الرعد: 8، 9]“ الله الذى جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصراً “ [ غافر: 61 ] “ الله الذى جعل لكم الأرض قراراً والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم “ [ غافر: 64 ]“ بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة، وخلق كل شىء وهو بكل شىء عليم، ذلك الله ربكم، لا إله إلا هو خالق كل شىء وهو على كل شىء وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير “ [ الأنعام: 101، 102 ]وآيات أخرى كثيرة كثيرة، كلها شواهد على أن ما وقر فى نفسى عن الله بطريق العقل قد أيده النقل تأييداً مطلقاً، وجعلنى أستريح إلى الإسلام فكراً وضميراً .”

محمد الغزالي

محمد الغزالي - “أذكر أننى تجولت فى مصانع السكر، ورأيت...” 1

Similar quotes

“إننى فى دنيا الناس الآن- عندما أقيس نفسى بسكان الأرض- أهون من ذبابة فكيف إذا قست نفسى بجموع المستقدمين والمستأخرين من أزل الدنيا إلى أبدها؟ كم أساوى والحالة هذه؟ لقد تضاءلت كثيرا وهذا الخاطر يمز لى، وزاح عنى غرورى، وعرفت أن المحصورين فى أنفسهم يعيشون فى وهم كبير أو فى ظلمة دامسة . . ثم طفربى الفكر طفرة أخرى: ما يكون وزن الناس كلهم بعد ما أسمع هذا النبأ عن أبعاد الكون الذى نرمق ملكوته بقصور شديد؟ يقول الله تعالى: 'لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون' إن الأرض إذا قيست بأمها الشمس هباءة طائرة، والشمس إذا قيست بالمجرات الأخرى هباءة شاحبة، والشموس والمجرات إذا قيست بملكوت الله حلقة فى فلاة.. وليس يبقى فى العالم الرحب شىء له قيمة تذكرإلا عقل ساجد لله جاث أمام عظمته يقول: 'سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم '. إن الألسنة اللاهثة تنقطع وهى فى سباق مع ذرات الوجود قبل أن تحمى ما ينبغى لله من مجد، ومايستحقه من حمد. ولأقرر أن محمدا عليه الصلاة والسلام هو الذى ورث علوم الأنبياء، وقدم لنا فى كتابه ، الحق المصفى. إنه الإنسان الأول الذى أحسن تنزيه الله، وتوحيده، ومدحه والثناء عليه بما هو أهله. والحضارة التى أقامها على ظهر الأرض، أساسها الربانيةالخالصة، وشعارها الفذ: الله أكبروجهادها الزاكى الباقى هو لحراسة الحقيقة الواحدة، وإخماد المناوشات التى تعاديها”

محمد الغزالي
Read more

“إن الاغترار بالعلم رذيلة تسقط قيمة العمل، ولو أن أحدا طالب الله أن يقربه إليه، أو أن يجزل له المثوبة، ناظرا فى ذلك إلى ما بذل من جهد ما استحق عند الله شيئا طائلا.والواجب أن يتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره، موقن بأن حق الله عليه أربى من أن يقوم بذرة منه، وأنه إذا لم يتغمده الله برحمته هلك.هبك بذلت نفسك، ومالك له...أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال…؟ فإذا أدخلك الجنة ـ بعد ـ ألا يكون متفضلا؟ وانظر إلى سلسلة الأعمال التى تؤديها خلال فترة المحيا على هذه الأرض، كم يكتنفها من علل النفس وآفات التقصير؟ إنها لو كانت أعمال غيرك فعرضت عليك أنت ما قبلتها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!!إن المؤمن يعمل، ولكنه لا يتطاول بعمله أبدا.”

محمد الغزالي
Read more

“ولكى يكون الجهاد النفسى صادقا لابد أن يجىء تنفيذا لخطة رسمتها الشريعة، وبينت معالمها بوضوح.ومن هنا فالجهاد المقبول لا موضع له إلا إذا كان انتهاء عن حرام أو انتهاضا إلى واجب.الجهاد المقبول هو الذى يسبك النفس فى بوتقته لتصفو من درنها ثم تصاغ وفق القالب الذى أراده الله لها.الجهاد المقبول هو الذى يستهدف وجه الله فى كل حركة ويتحرى حكمه فى كل وجه.وكل جهاد ننهى صلته بالله فهو مردود على أصحابه...”

محمد الغزالي
Read more

“ثقى إنك موهوبة وأن الله قد خصك بشىء وأنك لم تخلقى لتشبهى الملايين من أمثالك وإنما أنت جئت إلى الدنيا فى بعثه مقدسة لتكتشفى جوهرتك وتصقلينها وليثق كل واحد أن تحت مظهره العادى بذرة فى مكان مابذره فى مكان ما بذرة عبقرية عليه أن يبحث عنها ويكتشفها وسوف يكون كل شىء بع ذلك ممكناً”

مصطفى محمود
Read more

“ليس معنى أن الله سبحانه و تعالى عندما قال لى لا تسرق قد قيد حريتى فى أن أمد يدى إلى مال غيرى ..هذه نظرة ضيقة و لكنه فى الحقيقة قد قيد المجتمع كله فى أن يمد يده إلى مالى .. فحمانى - و أنا القرد الضعيف- من مجتمع يمكن أن يجردنى من كل شىء”

محمد متولي الشعراوي
Read more