“رأيت أن الذين قرأت تراجمهم الذاتية يجمعون كلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأزمانهم وأعمارهم وأديانهم، وتفاضل تجاربهم، وتباين مشارب أنفسهم، وتنوع مطارح مقاديرهم: على أن الحياة نصب ومشقة، وأنهم ما نالوا ما نالوه منها إلا بالصبر والتجلد والمغالبة. 2- ثم رأيتهم - هذا هو بيت القصيد من حديث التراجم هذا - يجمعون وفيهم: العالم والأديب، والمخرج والفيلسوف، والسياسي والقائد، والممثل والأستاذ، والرسام والمهندس، والتاجر والمريض، والسجين والفقير، ومن شئت وما شئت.. رأيتهم يجمعون كلهم على فساد طبيعة الإنسان، وسوء خلقه، وبشاعة مخبره، وخبث طويته، ورداءة صنفه.. وأنه لم ينلهم من أوصاب هذه الفانية، وأدواء هذا العمر، وأتراح هذي الروح؛ أشد ولا أشق ولا أكثر إيلاماً من صراع الإنسان وحسده وقبحه.. فمن كاذب لا يصدق إلا في أنه كاذب، وخائن لمن ائتمنه، ومتنكر لصديق أحوج ما يكون إليه، وظالم يطلب ما لا حق له فيه، وجاهل خابي الذهن فاتر الموهبة ينقم على هذا وذاك أن منّ الله عليهما بما حرمه منه.. إلى ذي روح خبيثة يأبى صاحبها أن تنـزع منه قبل أن يسيء إلى من أحسن إليه، وذي أثرة مفرطة يتمنى معها أن لو صرم نصف أهل الدنيا ولا تفوته نومة العصر.. في أمثلة بغيضة، ونماذج كريهة، ونسخ مكرورة مشوهة، يخجل المعافى أن يجتمع معها في مسمى واحد، حتى قال بعض المؤلفين - شبه معتذر - في مقدمة كتاب له:"لعلي لا أجانب الصواب، ولا أبتعد عن جوهر الحقيقة إن قلت: إنني كائن بشري"! وهكذا.. فبعد أن طالعت من كتب التراجم الذاتية ما يملأ قبة الصخرة؛ وجدتني أفتح الباب وأدخل إلى الشارع! كما عبر كاتب غربي نسيت اسمه. هكذا وجدتني أعود أدراجي كرة أخرى، فإذا الإنسان ذئب الإنسان يفري أخاه فرياً شديداً، وإذا الحياة هي الحياة: تلد بنيها، ثم تعود فتختل لهم، وتفعل بهم ما تفعله القطة الغادرة بصغارها العمي العاجزين. فبئس الناس وبئس الحياة..سئمت كل قديمعرفته في حياتيإن كان عندك شيءمن الجديد فهاتِ”
“و قد كتب على الإنسان أن يرى واقعه دوما من خلال عدسة مشوهة ، و ما يراه واقعا هو في أغلب الظن ما يود أن يرى هذا الواقع على صورته .”
“وأرجو من القارئ أن لا ينخدع بما يتحذلق به المتحذلقون من أنهم يحبون الحقيقة ويريدون الوصول إليها بأي ثمن. إن هذا هراء ما بعده هراء. إن الإنسان حيوان وابن حيوان وذو نسب في الحيوانات عريق. فهو يود من صميم قلبه أن يكون غالباً ويكره أن يكون مغلوباً على أي حال. إن الغلبة هي رمز البقاء في معركة الحياة. ومن النادر أن نجد إنساناً يلذ له أن يصل إلى الحقيقة وهو مغلوب أو مهان أو خاسر.”
“إن جميع مدارك الإنسان إنما هو وليد تصوراته، والتصورات إنما تتجمع في الذهن عن طريق نوافذ الحواس الخمس. وهذا يعني أن الإنسان لا يعقل من المجردات إلا ما كان له مقاييس ونماذج حسية في ذهنه، فما لم يسبق له في ذهنه أي نموذج أو مقياس فإن من المحال بالنسبة إليه أن يتصوره ويدركه”
“لأصل للفن أنه وجدان مفتوح على الكون، إنه قلب اتسعت أقطاره لترى ما في الدنيا مما صنع الله فيها من جمال."من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، وأنا أرفض أن يجيء إنسان فيفرض انسحابه من هذه الدنيا على الناس، ويقول لهم: اتركوا هذه الفنون، لا، لا أتركها "وهناك أناس اتصلوا بالدين من جانب ضيق فيه، وأحبوا ويحبون أن يكون الدين كآبة، ويحبون أن تكون نظرتهم له نظرة فيها ضراء وبأساء، وهذا مرفوض، فإن الله (سبحانه وتعالى) لما شرح لنا علاقة الخلق به لم يشرحها على هذا النحو، بل قال: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف: 32)، أي هي لهم في الدنيا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولكنها تخلص لهم وحدهم يوم القيامة، وبين أن الذي حرمه معروف "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" (الأعراف: 33).من غير شك، الفنون ينبغي أن يكون لها مجال في حياتنا، وألفت النظر إلى أن الإباحة هي الأصل في الكون "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" (البقرة: 29). أنا أرى أنه من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، وأنا أرفض أن يجيء إنسان فيفرض انسحابه من هذه الدنيا على الناس، ويقول لهم: اتركوا هذه الفنون، لا، لا أتركها، أنا أحولها إلى ما يخدم مبادئي وأهدافي.”
“أشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد ولا يزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولا تزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بَدْء العذاب.”