“إن معظم الناس مقتنعون بأنه طالما أنهم ليسوا مضطرين صراحة إلى عمل شيء بسبب قوة خارجية، فإن قراراتهم هي قراراتهم وأنهم إذا أرادوا شيئا فانهم هم الذين يريدونه. ولكن هذا هو أحد الأوهام الكبرى التي لدينا عن أنفسنا. إن عددا كبيرا من قراراتنا ليست حقا قراراتنا، بل أوحى بها لنا من الخارج، لقد نجحنا في اقناع أنفسنا بأننا نحن الذين نصنع القرار بينما نحن في الحقيقة نتطابق مع توقعات الآخرين مساقين بالخوف من العزلة وبتهديدات مباشرة أكثر إزاء حياتنا وحريتنا وراحتنا.”
“اننا فخورون باننا لسنا خاضعين لاية قوة خارجية, واننا احرار في التعبير عن افكارنا ومشاعرنا ونحن نأخذ بثقة ان هذه الحرية تكاد تضمن على نحو تلقائي آلي فرديتنا. وعلى اية حال, فان حق التعبير عن افكارنا لا يعني شيئا الا اذا كان قادرين على ان تكون لنا افكار من انفسنا, ان التحرر من السلطة الخارجية هو مكسب اخير اذا ما كانت الظروف السيكولوجية الباطنية هي بشكل يمكننا من تأسيس تفرديتنا. فهل نحن حققنا ذلك الهدف او اننا على الاقل نقترب منه ؟”
“لقد زاد فقدان النفس من ضرورة التطابق, فقد ترتب على هذا شك عميق بذاتية الانسان. اذا كنت لا شيء, بل ما اعتقد انه مفروض فيّ - فمن "انا" ؟لقد رأينا كيف ان الشك في نفس الانسان بدأ بتحطيم النظام في العصور الوسطى الذي كان للفرد فيه مكان لا يتزعزع بنظام محدد. لقد كانت ذاتية الفرد مشكلة كبرى في الفلسفة الحديثة منذ ديكارت. واليوم نعتقد اننا ما نحن عليه. ومع هذا لا يزال الشك قائماً حول انفسنا او لقد نما بالاحرى. لقد عبر بيراندللو في مسرحياته عن شعور الانسان الحديث هذا. انه يبدأ بالسؤال: من انا ؟ اي برهان لديّ عن ذاتيتي سوى استمرار نفسي الفيزيائية ؟ وليست اجابته مثل اجابة ديكارت - تأكيد النفس الفردية- بل انكارها: ليس لي ذاتيه, ليست هناك نفس سوى التي هي انعكاس لما يتوقع الأخرون مني ان اكون عليه: انني كما ترغب انت.”
“الفرد في كل نشاط تلقائي يعانق العالم. فلا تظل نفسه الفردية لم تُقضَ فحسب, بل هي تصبح اكثر قوة واشد صلابة. فالنفس تكون قوية بقدر ما تكون نشطة. لا يوجد اية قوة اصيلة في التملك كتملك, لا في الملكية المادية ولا في الصفات الذهنية مثل الانفعالات او الافكار. كما انه لا يوجد ايضا قوة في استخدام واستغلال الموضوعات, ان ما نستخدمه ليس ملكنا بكل بساطة لاننا نستخدمه. ان ما هو ملكنا هو فقط الذي نرتبط به بنشاطنا الخلاق سواء كان هذا شخصا او موضوعا غير حي. ان تلك الصفات الناجمة عن نشاطنا التلقائي هي وحدها التي تعطي قوة للنفس ومن ثم تكوّن اساس التكامل. والعجز عن السلوك تلقائيا والتعبير عما يشعر به المرء ويفكر فيه بأصالة والضرورة الناجمة لتقديم نفس زائفة للآخرين وللانسان هي كلها جذر الشعور بالدونية والضعف. وسواء كنا ندري هذا ام لا, فلا شيء يدعونا الى الخجل اكثر من الا نكون انفسنا, ولا يوجد شيء يمكن ان يعطينا فخارا وسعادة اكثر من التفكير والشعور والقول بما هو نحن.”
“اننا نتبين ان عملية نمو الحرية الانسانية لها الطابع الجدلي نفسه الذي لاحظناه في عملية النمو الفردي. فمن جهة, انها عملية نمو القوة والتكامل, السيادة على الطبيعة, نمو قوة العقل الانساني ونمو التضامن مع البشر الآخرين. ولكن من جهة اخرى نجد ان هذا الاصطباغ المتنامي بصبغة فردية يعني تنمية العزلة والقلق ومن ثم نمو الشك فيما يتعلق بدور الانسان في الكون ومعنى حياة الانسان والشعور النامي بعجز الانسان ولا معناه كفرد.”
“ان اطروحة هذا الكتاب هي ان الحرية لها معنيان بالنسبة للانسان الحديث: لقد تحرر من السلطات التقليدية واصبح "فردا", لكنه في الوقت نفسه اصبح منعزلا عاجزا وأداة للاغراض القائمة خارجه وانه اغترب عن نفسه وعن الآخرين. زيادة على ذلك, ان هذه الحالة تقوّض نفسه وتضعفه وترعبه, وتجعله مستعدا للخضوع لانواع جديدة من القيد. اما الحرية الايجابية من جهة اخرى فهي متطابقة مع التحقق الكامل لامكانيات الفرد مع قدرته على ان يحيا بشكل ايجابي وتلقائي. لقد وصلت الحرية الى نقطة حرجة عندها -وهي مدفوعة بمنطق ديناميتها- تهدد بالتغير الى نقيضها. ان مستقبل الديمقراطية انما يتوقف على تحقق النزعة الفردية التي ظلت الهدف الايديولوجي للفكر الحديث منذ عصر النهضة. ان الازمة الحضارية والسياسية في ايامنا هذه لا ترجع الى ان هناك افراطا في النزعة الفردية بل ترجع الى ان ما نعتقد انه نزعة فردية قد اصبح قوقعة فارغة.ان انتصار الحرية ليس ممكنا الا اذا تطورت الديمقراطية الى مجتمع فيه يكون نمو وسعادة الفرد هما هدف وغرض الحضارة, وفيه لا تحتاج الحياة الى تبرير للنجاح او اي شيء آخر, وفيه لا يكون الفرد تابعا ومُستغلا من جانب اية قوة خارجه سواء كانت الدولة او الجهاز الاقتصادي, واخيرا مجتمع لا تكون فيه المثل والضمير التبطّن للمطالب الخارجية, بل تكون حقا مثله وضميره "هو" وتعبر عن الاهداف النابعة من تفردية نفسه.وهذه الاهداف لم تتحقق تماما في اي فترة سابقة من التاريخ الحديث, وهي يجب ان تظل الى حد كبير الاهداف الايديولوجية, وذلك لان الاساس المادي لتطور النزعة الفردية الاصيلة ناقص. لقد خلقت الرأسمالية هذه المقدمة, وحلّت مشكلة الانتاج -من ناحية المبدأ على الأقل- ونحن نستطيع ان نتخيل مستقبلا للوفرة لا يعود فيه النضال من اجل الامتيازات الاقتصادية مدفوعا بالندرة الاقتصادية. ان المشكلة المواجهين بها اليوم هي مشكلة تنظيم القوى الاجتماعية والاقتصادية حتى يمكن للانسان -كعضو في مجتمع منظم- ان يصبح سيد تلك القوى ويكف عن ان يكون عبدا لها.”
“إن الانفعالات في مجتمعنا لا يحدث لها تشجيع بصفة عامة. وبينما ليس هناك شك في أن أي تفكير خلاق -وكذلك أي نشاط خلاق آخر- مرتبط لا محالة بالانفعال، فقد أصبح من المثاليات أن نفكر وأن نعيش بالانفعالات. أن تكون "منفعلًا" قد أصبح مرادفًا لأن تكون لست متزنًا أو لست على ما يرام. والفرد بتقبله هذا المعيار قد أصبح ضعيفا إلى حد كبير.لقد افتقر تفكيره وتسطح. ومن جهة أخرى، لما لم يكن في الامكان قتل الانفعالات تمامًا، فإنه لا بد من أن يكون لها وجودها بعيدًا عن الجانب العقلي من الشخصية، والنتيجة هي العاطفة الرخيصة وغير المخلصة التي تغذي بها السينما والأغنيات الشعبية ملايين من الزبائن المحرومين من العواطف.”