“أيّا ما كان الأمر، في هذا الوجه من المسألة، فإن القضية في جوهرها لا ترد إلى المصدر الذي صدرت عنه الديمقراطية - هل هو التراث الإسلامي أم أثينا أم الغرب الحديث - فكل هذه التراثات تشكلت «إنسانيا» وقيمتها تأتي في نهاية الأمر من طبيعتها وماهيتها ومن قدرتها على الاستجابة المكافئة للمصالح والمطالب الإنسانية الأصيلة، ومن التفاعلات التي تحدث في العناصر المشكلة للمنظومة والتي تفضي إلى تحقق «المصلحة» والعدالة والخير العام. وفي هذا الشأن تظل «كلمة السر» التي صرح بها ابن عقيل هي الكلمة الحاسمة في المسألة: «السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي»، ومثلها كلمة ابن قيم الجوزية: «فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهها بأي طريق فثم شرع الله ودينه». فالجواب إذن عن سؤال: نصدر عن «المعطى الغربي» أم عن «المعطى التراثي»؟ هو التالي: في الأمور الإنسانية نصدر عما تتبين فيه المصلحة والخير العام والعدالة، لا أكثر ولا أقل.”
“في النظام الرأسمالي الليبرالي - وفي ليبرالية السوق على نحوٍ أخص - لا تعترف الحرية لنفسها بحدود، مثلما أنها لا تريد أن يكون لأحد أبدا يد عليها. والدولة نفسها في الفلسفة الليبرالية السوقية، أي في ما قد يسمى بالليبرالية الجديدة، ترتد إلى أضيق الحدود ولا يُطلب منها أن تتدخل في شؤون الحرية والسوق إلا بصفتها ضامنا قانونيا لقانون السوق، أي لإرادة الشركات العملاقة والقوى الرأسمالية الضخمة التي سيّجت نفسها بقوى الإعلام المرعبة. ما الذي يتبقى للمجتمع والأفراد والدولة؟ وما هو مصير العدالة بوجه خاص في هذا النظام الذي لا يعرف قيما غير قيم اقتصاد السوق؟ إن التناقض بين الديمقراطية وبين العدالة يصبح في المنظومة الديمقراطية حساسا شائكا، وفي أحوال محددة من النماذج الديمقراطية تصبح العدالة كائنا غير مرغوب فيه على الإطلاق، مثلما أن تلك الديمقراطية تصبح وبالا على الحياة البشرية.”
“لذا سأقول إن الخيار الديمقراطي العربي في المستقبل ينبغي أن يتوجه إلى نموذج «الديمقراطية الجماعاتية»، لا إلى الديمقراطية المشتقة من «الليبرالية - الجديدة»، ليبرالية السوق الكونية التي تحتقّر العدالة وجملة القيم الإنسانية المؤسسة لكرامة الذات الإنسانية.”
“رابعة تلك الملاحظات أن الإيرانيين لم يكونوا على استيعاب كاف لتطورات الوضع العربي ، التي هي في مجملها أقرب إلى السلب منه إلى الإيجاب ، ذلك أنه حتى قرب نهاية الستينات كانت للجماهير العربية قيادة متمثلة في جمال عبد الناصر . و كانت قيم النضال ضد الاستعمار و الثورة لاستخلاص الحقوق مما تبناه الشارع العربي و وقف وراءه . كان للجماهير العربية حضور ، فضلا عن أنه كانت ثمة قيادة تعبر عن ضمير تلك الجماهير و طموحتها . ابتداء من السبعينات تغيرت تلك الصورة ، غاب الرمز و غاب دور الشارع . و ظهرت خريطة من القيم السلبية الجديدة في الواقع العربي ، تتبنى الإنحياز إلى المعسكر الغبي من ناحية ، و ترفع شعارات الإقليمية و التجزئة من ناحية أخرى . و بدأت في العالم العربي مرحلة "الأنظمة" التي تعاظم دورها على حساب دور الشارع و الجماهير . هذه الظروف في مجموعها كان لها تأثيرها الضروري على القيادة الفلسطنينة . كان لابد لتلك القيادة أن تتعامل مع الواقع العربي بمتغيراته السلبية ، إذ لم تكن في موقف يسمح لها لا بتحدي هذا الواقع و لا بتغييره . و هذا ما لم تدركه القيادة الإيرانية ، و حاسبت الفلسطينيين من منطلق خاطيء تماما ، منفصل عن تلك المتغيرات في الواقع العربي .”
“لقد شكّلت عمليات القمع المستمر لحرية التعبير في البيئات الإسلامية و عند الأفراد أو الجماعات أو الجمعيات التي تمارسها؛ صورة طاردة للإسلام في زمن الحرية .. و إن هي دلت على أمر فإنها تدلّ على أن مفكري الإسلام و دعاته ووعاظه و علماءه باتوا عاجزين عن الحوار والنقاش و المناظرات السلميّة الآمنة التي برع فيها قدماؤهم؛ و تركوا مهمة الدفاع عن الإسلام إلى آليات التكفير والتهديد والتخويف والإفتاء بالقتل؛ با والقتل أيضًا .”
“إلى المستقبل أو الماضي , إلى الزمن الذي يكون فيه الفكر حراً طليقاً , إلى زمن يختلف فيه الأشخاص عن بعضهم البعض ولا يعيش كل منهم في عزلة عن الآخر وإلى زمن تظل الحقيقة فيه قائمة ولا يمكن لأحد أم يمحو ما ينتجه الآخرون . وإليكم , من هذا العصر الذي يعيش فيه الناس متشابهين , متناسخين , لا يختلف الواحد منهم عن الآخر . من عصر العزلة , من عصر الأخ الكبير . من عصر التفكير المزدوج , تحياتي ! "شعر آنذاك كأنه في عالم الأموات , وبدا له أنه في هذه اللحظة فقط , لحظة بات فيها قادرا على صياغة أفكاره , قد اتخذ الخطوة الحاسمة . إن عواقب كل عمل تكمن في العمل نفسه , وكتب :"إن جريمة الفكر لا تفضي إلى الموت , إنها الموت نفسه !”
“وفي مختلف كتاباتهم وحوارتهم [إشارة إلى "العلمانيين المتطرفيين" حسب وصف الكاتب] فإنهم ما اتفكوا يدسون على عقولنا أفكارًا وصياغات تضفي على التطبيق الإسلامي صفات الكراهة والنفور، فهو عندهم يتلبس الحق الإلهي، ويُباشر بدعوى التفويض من الله، ويتخفى بقناعات العصمة والقداسة، ويُحيل الحكم إلى كهنوت يحتكره القابضون على أسرار الشريعة القائمون على السلطة الدينية. وهم في ذلك كله ما برحوا يحتجو علينا بتاريخ لم ينبت لنا في أرض، ويخوفوننا بعفاريت لم تدخل لنا بيت، ويصطنعون أوهامًا وكوابيس ما أنزل الله بها من سلطان، لا في ماضي المسلمين ولا في فكرهم ولا في تعاليم دينهم”