“فأي مقدور من المقدورات تضيق به قوة الله وحكمته، وأي عقل من العقول الإنسانية يستطيع أن يبدع في تصوراته وتخيلاته الذهنية فوق ما تبدع يد القدرة في مصنوعاتها وآثارها، وهل الصور والخيالات التي تمتلئ بها أذهاننا وتموج بها عقولنا إلا رسوم ضئيلة لحقائق هذا الكون وبدائعه، ولو أن سامعا سمع وصف منظر الشمس عند طلوعها، أو مهبط الليل عند نزوله، أو جمال غابة من الغابات، أو شموخ جبل من الأجبال، ثم رأى بعد ذلك عيانا، ما كان يراه تصورا وخيالا، لعلم أن جمال الكائنات فوق جمال التصورات، وحقائق الموجودات فوق هواتف الخيلات، لذلك أعتقد أني ما تخيلت هذه السعادة التي أقدرها لنفسي إلا لأنها كائن من الكائنات الموجودة و أنها آتية لا ريب فيها.”
“كتبت إليكِ كثيراً ، فلم تكتبي إليّ كثيراً ولا قليلاًَ ؛ لأنكِ تعتقدين ما يعتقده كثيرٌ من النساء من أن المرأة التي تكتب إلى حبيبها كتاب حب : آثمة أو غير شريفة ؛ أما انا فأعتقد أنها إن لم تفعل فهي مرائية مصانعة ، لأن المرأة التي وهبت قلبها هبة خالصة لا يخالطها شك وريبة ، لا ترى مانعاً يمنعها من أن تكتب لحبيبها في غيبته بمثل ما تحدثه به في حضرته .”
“أعجب ما أعجب له في شؤونكم أنكم تعلمتم كل شيء، إلا شيئاً واحداً هو أدنى إلى مدارككم أن تعلموه قبل كل شيء، وهو أن لكل تربة نباتاً ينبت فيها، ولكل نبات زمناً ينمو فيه.رأيتم العلماء في أوروبا يشتغلون بكماليات العلوم بين أمم قد فرغت من ضرورياتها، فاشتغلتم بها مثلهم في أمة لا يزال سوادها الأعظم في حاجة إلى معرفة حروف الهجاء.ورأيتم الفلاسفة فيها ينشرون فلسفة الكفر بين شعوب ملحدة، لها من عقولها وآدابها ما يغنيها بعض الغناء عن إيمانها، فاشتغلتم بنشرها بين أمة ضعيفة ساذجة لا يغنيها عن إيمانها شيء، إن كان هناك ما يغني عنه.ورأيتم الرجل الأوروبي حراً مطلقاً يفعل ما يشاء ويعيش كما يريد، لأنه يستطيع أن يملك نفسه وخطواته في الساعة التي يعلم فيها أنه قد وصل إلى حدود الحرية التي رسمها لنفسه فلا يتخطاها، فأردتم أن تمنحوا هذه الحرية نفسها رجلاً ضعيف الإرادة والعزيمة، يعيش من حياته الأدبية في رأس مُنحدرٍ زَلقٍ إن زلّت به قدمُه مرة تدهور من حيث لا يستطيع أن يستمسك، حتى يبلغ الهوّة ويتردى في قرارتها.ورأيتم الزوج الأوروبي الذي أطفأت البيئة غيرته.. وأزالت خشونة نفسه وحُرْشَتَهَا ، يستطيع أن يرى زوجته تخاصر من تشاء، وتصاحب من تشاء، وتخلو بمن تشاء، فيقف أمام ذلك المشهد موقف الجامد المتبلد. فأردتم الرجل الشرقي الغيور الملتهب أن يقف موقفه، ويستمسك استمساكه!.. إن كل نبات يزرع في أرض غير أرضه، أو في ساعة غير ساعته، إما أن تأباه الأرض فتلفظه، وإما أن ينشب فيها فيفسدها.”
“أنا لا أقول إلا ما أعتقد, ولا أعتقد إلّا ما أسمع صداه من جوانب نفسي, فربَّما خالفتُ الناس أشياءً يعلمون منها غير ما أعلم, ومعذرتي إليهم في ذلك أن الحقَّ أولى بالمجاملة منهم, وأن في رأسي عقلاً أُجِلُّه عن أن أنزل به إلى أن يكون سيقةً للعقول, وريشةً في مهاب الأغراض والأهواء .”
“أحمدك اللهم فقد ظفرت بالحياة التي كنت أقدِّرها لنفسي، ووجدت المرأة التي كنت أصورها في مخيِّلتي، وما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق، والهواء المتردد الذي يهب الإنسان حياته وقوّته، والمعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله، ففي وجه هذه الفتاة التي عثرت بها اليوم قد عثرت بحياتي وسعادتي، ويقيني وإيماني.”
“لو أن أحدا من قبلي استطاع أن يدفع هواه عن قلبه أو يمحو ما قدر له في صحيفة قضائه من شقاء الحب وبلائه لسلكت سبيله التي سلكها ولكنه بلاء بليت به لحين أريد لي، فلا رأي لي في رده ولا حيلة لي في اتقائه”
“فإنّ للمدنيّة شقاءً كشقاء الهمجيّة لا يختلف عنه إلّا في لونه وصبغته. فإنّ وقوف الإنسان في وسط ذلك المُزدَحم الهائل بين الجواذب المتخلفة، والدّوافع المتعدّدة، وحيرة عقله بين مختلف المذاهب والشّيع والآراء والأفكار يحاول كلٌّ منها أن يجذبه إليه ويسيطر عليه، ويستأثر به، وهو فيما بينها كالرّيشة الطّائرة في مهاب الرّياح لا تستقرّ في قرار ولا تهبط في مهبط، متعبةٌ عقليّةٌ لا قِبَلَ له باحتمالها، ولو أنّه كان أسيرًا في قوم متوحّشين، وقد شدّه آسروه إلى جذع من جذوع النّخل، وأخذ كلّ منهم بعضوٍ من أعضائه يجذبه جذبًا شديدًا ليمزّقوه إربًا إربًا، لكان ذلك أهون عليه من هذه الحالة الّتي لا يستطيع أن يتمتّع فيها بهدوئه النّفسيّ وسكونه الفكريّ كما تتمتّع السّائمةُ على وجهها في مسارحها ومرابعها، فلا يجد له بُدًّا من الفرار بنفسه إلّا حيث يجد نفسه ويظفر كيانه، ولا سبيل له إلى وجدان نفسه والعثور بها إلّا في مثل هذه الصّخرة النّائية المنقطعة الّتي يستطيع أن يجمع في ظلالها ما تفرّق من أمره، وتبعثر من قوّته، ويصغيَ في وسط ذلك السّكون والهدوء إلى صوت قلبه حين يحدّثه أصدق الأحاديث وأجملها عن الخالق والمخلوق، والحياة والموت، والبقاء والفناء، وطبيعة الكون وأسرار الخليقة، فيشعر بالرّاحة بعد ذلك العناء الكثير والكدّ الطّويل كالسّيل المتحدّر من أعالي الجبال، لا يزال يحمل في طريقه الأقذاء والأكدار، فإذا بلغ الحضيض استحال إلى بركة هادئة ساكنة يتلألأ في صفحتها الصّقيلة اللّامعة جمال السّماء وبهجة الملأ الأعلى.”