“من تلك الدوافع والمقاصد ما يحصل بقصد التماهي مع الآخرين ومشاركتهم آراءهم وعقائدهم، كثيرًا ما يدفع حب التواصل والانسجام إلى الامتثالية والاقتداء. ومنها ما يحصل بحافز الهوى فلا يرى الباحث موضوعه إلّا من زاوية اشباع الرغبة المادية أو المعنوية التي دفعته إليه. ومنها ما يحصل بقصد الفهم والمرفة الخالصة، ويمكن لحب المعرفة أن يؤدي إلى الاستغراق في الموضوع وتجاهل كل ما يحيط به من عوامل وعواطف وقيم وأهداف إنسانية. ومنها ما يحصل بقصد تغيير الموضوع فيدفع الباحث إلى رؤية عناصر التغيير وتجاهل عناصر الثبات، إلخ.فكل مقصد من هذه المقاصد يظهر جانبًا من الواقع ويخفي جانبًا آخر لا يريد ان يبصره ولا يوليه اهتمامًا. وليس ناك مقولة او نظرة واحدة تستطيع ان تشمل كل المقاصد وترى الموضوع في جميع حالاته ومن جميع جوانبه مادام لا يوجد وعي متجرد عن كل شرط وحاله وموقع وزمان ورغبة. وهذا أصل أساسي من اصول اختلاف الناس في فهمهم للأمور، وسبب من اسباب تباينهم في الرأي. فإضافة إلى اتلاف الكلام باختلاف المتكلم وموقعه وشروط تكوينه الذاتيه وظروفه الاجتماعية وطبيعة المتلقي والشاهد وموقعه ومكانه وهي كلها عوامل تجعل الحقائق نسبية والمعارف متبدلة، هناك مقاصد الكلام المعلنة او الخفيّة التي تعبر عن مبدأ العلاقة الأولى بين الذات المفكرة وموضوع التفكير. وبقدر صدق الرغبة ووضح المقصد يكون وضوح الفكرة ووعي الباحث لحدود معرفته وظروفها.وترجمة هذا بالنسبة لموضوع الواقع العربي، أن التغيير الذي تطالب به كل الأطراف لا يمكن أن يتحقق إلا بقدر صدق الرغبة فيه ووضوح مقصده. وتوجه البحث نحو فتح آفاق جديدة للمارسة وللمبادرة الاجتماعية. وهذا يقتضي التركيز على مكامن القوة في الواقع والثقافة والتاريخ العربي مقابل نقاط الضعف والتفكك، ورؤية التناقضات المحركة مقابل التشديد على التماثلات المجمدة والمثبطة”

برهان غليون

Explore This Quote Further

Quote by برهان غليون: “من تلك الدوافع والمقاصد ما يحصل بقصد التماهي مع … - Image 1

Similar quotes

“كل من يبحث يضع نصب عينيه غاية من بحثه ولديه حافز عليه يدفعه إليه ويشرط تحليله وتركيبه للواقع في الذهن وكشفه لجوانبه الخاصة. وأصل ذلك أن التفكير لا يحصل إلّا بقصد، وأن لا حركة بدون حافز سواء أدرك الفاعل ذلك أم لا. ومن التفكير ما يحصل بحافز الظهور على الآخرين أو منافستهم في الجدارة والأهلية. وليست كل منافسة بالأمر السيئ، فهي أحد مصادر دفع العلم والمعرفة. ولكن الاقتصار عليها او جعلها الحافز الأساسي يعمي قلب الباحث ولا يسمح له إلّا برؤية جزء محدود من الواقع الذي يتيح له الظهور”


“لا تعني المناظرة العلمية الموضوعية تطبيق مفاهيم مجردة واحدة على كل ميادين النشاط الإجتماعي والإنساني، ولا استخدام تعابير العقل والعقلانية. فكثيرًا ما يغطي خطاب العلميّة أو العقلانية السعي لإضفاء صبغة من الشرعية الأكاديمية على كلام يفتقد الموضوعية ويبعد عنها كل البعد. بل إن لجوء الباحثين المتكرر إلى تأكيد علمية أقوالهم غالبًا ما يغطي شكهم هم أنفسهم في صحة منطلقاتهم، وفهمهم السطحي والمجرد لصفة العلمية.يقتضي المنهج العمي كما نفهمه الاعتراف أولًا لإستقلال الموضوع عن الفكر وقيامه بذاته. وهذا مبدأ اساسي لكل بحث جدي يرفض ان يماثل بين موضوع البحث كما هو قائم وبين الصورة التي يأخذها عنه. فمن إيجابيات هذه النظرة أنها تحصن الباحث من رؤية الموضوع من خلال مايريد الموضوع أن يظهر نفسه به أو مايريد الباحث ان يراه عليه. فكم من باحث ينتقد اليوم الأنظمة العربية على أنها نماذج لأنظمة قومية أو إسلامية، كما تريد هي أن تظهر نفسها لتنال بعض الشرعية، أو كما يريد هو أن يوسمها به ليبرر دعمه أو رفضه لها بدل تحليل هذه الأنظمة تحليلًا موضوعيًا يكشف عن حقيقة القوى الاجتماعية التي تقوم عليها، وطبيعة الأهداف التي تقوم عمليًا بتحقيقها والدفاع عنها. والاعتراف باستقلال الموضوع هو الشرط الأول للإنطلاق من الواقع الموضوعي، أي من الحركة والظاهرة لفهم قوانينها، وعدم السعي إلى التقرب منها من خلال الأفكار التي يصنعها المتحدثون عنها”


“يكاد النقد أن يشمل اليوم جميع عقائديات ونظريات الحقبة الماضية، ولا يستثني أحدًا منها، بل غالبًا ما يتجاوزها لينفي الواقع العملي الذي كانت تعبّر عنه كما يحصل لفكرة القومية العربية ولغيرها من النظريات السلفية أو الإشتراكية. وإذا عبَّر هذا الجموح عن شيء، فإنما يعبّر عن عمق مشاعر الشك والحيرة التي بدأت تلفّ الوعي العربي حتى لتبدو جميع الحقائق واهية في مرآته ولا سند لها. ومن المعروف أن موت نظام اجتماعي ما أو تفسخع ينعكس مباشرة على الحقائق والبديهيات التي ترتبط بها وتبرره او تضفي عليه المشروعية فيفقدها عقلانيتها وصلاحيتها. ولا ريب أن لهذا الشك العميق مخاطره مثل ماله ايجابياته أيضًا. فهو يمكن أن يكون شكًا مدمرًا كما يمكن أن يكون شكًا خلاقًا وذلك بحسب مايفضي إليه من تعطيل للعقل وللمارسة أو ما يؤدي إليه من حث على التفكير والتأمل ودفع إلى إبداع أطر معرفية ومبادئ جديدة للنظر وللمبادرة. وليس هناك حتى الآن أي مؤشر عميق إلى أننا قد أجتزنا مرحلة الخطر في هذا المجال. فالأدبيات العربية الحديثة توشك أن تكون شكوى لا نهاية لها لما وصلت إليه الحياة الثقافية من إنحدار، واحتجاجًا لا يهدأ على ما وصلت إليه الحياة السياسية من تدهور، وندبًا متواصلًا على ما بلغته الحياة الاقتصادية، الزرعية والصناعية، من خراب.”


“ان ميل الاقليات لدعم دولة علمانية يلتقي مع رغبة النخبة في ابعاد الجمهور عن السياسة والسلطة. وهو لا يتناقض ابدا مع محافظتها على هويتها الدينية او الاقوامية ولكنه يظهر كضامن لهما. بينما تشعر الاغلبية انها فقدت فيه الكثير. هكذا تتهم الاغلبية الاسلامية الاقليات بالتحالف مع الخارج, او مع السلطة العصرية المحلية بهدف خدمة مصالحها الخاصة. ومن المؤكد ان هذه الصورة العامة تحتاج الى التعديل. فمن الجانب غير المسلم كما من الجانب المسلم هناك الكثير من اصحاب التفكير الحر الذين يشعرون انهم تجاوزوا نهائيا هذه الحساسيات وانهم يتفهمون مواقف البعض اواعتراضات الاخرين ويسلكون تجاههم سلوكا يتسم بالالتزام القومي وبالحرص على الوحدة وتجاوز الاختلاف. ومع ذلك فهذا لا يغير شيئا من حقيقة المشكلة. فالأمة لا يكونها القلة من اصحاب التفكير الحر, ولكنها تتكون من الاغلبية التي ما تزال في وعيها حبيسة "الاحكام المسبقة" المتبادلة في هذا الموضوع, اي انها تميل الى ردود الافعال الطائفية التي تعكس تفوق الالتزام بمصالح الجماعة الدينية او الاقوامية على المصالح الطبقية او القومية.”


“إن نظره سريعة إلى مايجيش به المجتمع العربي من صراعات وانفجارات لكافية لرؤية الأبعاد الروحية والمادية لهذه الأزمة المفتوحة. ولعل أهم مظاهرها وأعمقها اليوم هي فقدان الأمن والطمأنينة، وزوال كل يقين، والخوف من العالم والميل إلى الإنطواء على النفس والتخلي عن كل موقف إيجابي تجاه الواقع، والخلود إلى موقف السلبية الشاملة المتجسدة في رفض الذات وفي رفض الآخر معًا، وغياب فاعلية كل المثل الكبرى الباعثة للأمل والحاثة على العمل والمحفزة للإرادة”


“تحقيق الهوية لا يمكن ان يتم الا اذا وجدت ثقافة قابلة لان تكون قاعدة لاجماع عقلي وهذا يتطلب سياسة ثقافية تملك وسائل تحقيقها المادية والمعنوية. وهو لا يمكن ان ينجح بفرض ثقافة عليا مهما كانت عقلانيتها او علمانيتها. وكذلك فيما يتعلق بالسلطة المركزية فالاشتراك السياسي وتعميم المساهمة في اتخاذ القرارات التي تخص مصير الجماعة لا يمكن ان يتطور الا اذا توفرت الوسائل المادية والفنية والمعنوية لتحقيقها, وليست الديمقراطية اليونانية المبنية على الاقتراع العام الا الاشكال التاريخية التي عبرت من مرحلة من المراحل عن تطور نوع من المشاركة السياسية الشعبية الرامية الى بناء سلطة مركزية مشروعة, واغلب الظن لن يكون من الممكن تقليدها مرة ثانية, اذ من شأنها في كثير من الحالات ان تنتج عكس ما كانت مكرسة لانتاجه: اي ان تغلق الباب امام امكانية المشاركة الشعبية. وقد رأينا ذلك في الديمقراطيات التي بدل ان تحطم العلاقات العصبوية كرستها وسدت النظام السياسي امام القوى الاجتماعية المختلفة او الناشئة.”