“موت أبى فى نهاية العام أكثر ما مسَّنى، ولم أفهم مصدر حزنى العميق إلا بعدها بسنوات: لم يكن هذا حزنا على فقد الأب فحسب، بل على الزمن الذى يمضى بلا رجعة ولا يوقفه شىء أو أحد، حتى أقوى الناس فى نظرى. حين مات أبى شعرت أنى كبرت: انتقلت بين عشية وضحاها من طابق الصغار إلى طابق الكبار. صعدت إلى الطابق الأعلى الذى ليس فوقه طوابق أخرى، والذى لا يمكن النزول منه ثانية، مهما فعلت.”
“حين مات أبي شعرت أني كبرت . صعدت الي الطابق الأعلي الذي ليس فوقه طوابق أخري ، و الذي لا يمكن النزول منه ثانية ، مهما فعلت .”
“أحيانا يداهمنى الشعور أننى لم أعرف أبى بما يكفى، أتساءل فجأة: ما الذى كان يفعله أبى فى هذا الموقف وماذا كان يقول فى ذلك الشأن. حين يفاجئنى هذا الشعور أرتبك.”
“لا زلت أشعر ببعض الألم ووخز الضمير حتى الآن، كلما تذكرت منظر أبي وهو جالس فى الصالة وحده ليلا، فى ضوء خافت، دون أن يبدو مشغولا بشيء على الإطلاق، لا قراءة ولا كتابة، ولا الاستماع إلى راديو، وقد رجعت أنا لتوي من مشاهدة فيلم سينمائى مع بعض الأصدقاء. أحيي أبى فيرد التحية، وأنا متجه بسرعة إلى باب حجرتى وفى نيتى أن أشرع فورا فى النوم، بينما هو يحاول استبقائي بأي عذر هروبا من وحدته، وشوقا إلى الحديث فى أى موضوع. يسألنى أين كنت فأجيبه، وعمن كان معى فأخبره، و عن اسم الفيلم فأذكره، كل هذا بإجابات مختصرة أشد الاختصار وهو يأمل فى عكس هذا بالضبط. فإذا طلب منى أن أحكى له موضوع الفيلم شعرت بضيق، و كأنه يطلب منى القيام بعمل ثقيل، أو كأن وقتى ثمين جدا لا يسمح بأن أعطى أبى بضع دقائق.لا أستطيع حتى الآن أن أفهم هذا التبرم الذى كثيرا ما يشعر به شاب صغير إزاء أبيه أو أمه، مهما بلغت حاجتهما إليه، بينما يبدى منتهى التسامح وسعة الصدر مع زميل أو صديق له فى مثل سنه مهما كانت سخافته وقلة شأنه. هل هو الخوف المستطير من فقدان الحرية والاستقلال، وتصور أى تعليق أو طلب يصدر من أبيه أو أمه وكأنه محاوله للتدخل فى شئونه الخاصة أو تقييد لحريته؟ لقد لاحظت أحيانا مثل هذا التبرم من أولادى أنا عندما أكون فى موقف مثل موقف أبى الذى وصفته حالا، وإن كنت أحاول أن أتجنب هذا الموقف بقدر الإمكان لما أتذكره من شعورى بالتبرم و التأفف من مطالب أبى. ولكنى كنت أقول لنفسى إذا إضطررت إلى ذلك “إنى لا أرغب فى أكثر من الاطمئنان على ابنى هذا، أو فى أن أعبر له عن اهتمامى بأحواله ومشاعره، فلماذا يعتبر هذا السلوك الذى لا باعث له إلا الحب، و كأنه اعتداء على حريته واستقلاله؟”
“ليس عندى ما أضيفه هذا العام وأنا أتأرجح حول نفسى فى هذا الانتقال الدائم من المخادعة إلى الرخاوة إلى الاستناد على آخر يحتويك وينقذك من كل هذا العفن ويأخذك فى سفر لا ينتهى إلى مفازات - متاهات الوحدة ... إلى الوحدة... إلى الوحدة.ليس عندى ما أضيفة هذا العام. سأكتب إليك العام القادم.. ربما.”
“تراتب البنية الاجتماعية السياسية المعرفية أشبه بتراتب جسم الإنسان عند أفلاطون، أعلاه الرأس الذى يحيط بالعقل الذى هو أشرف مكونات الجسم، ويليه الصدر فى التراتب الهابط، حيث القوة الغضبية فى الجسم، ويوازيها حراس الجمهورية، وأدنى من الصدر ما يليه، إلى أدنى الأدنى، حيث القوة الشهوانية الحيوانية المقترنة بكل الصفات السلبية، خصوصاً من حيث نقيض الرأس (العقل) الأعلى. والتراتب الطبقى شبيه بهذه البنية، صارمة التدرج إلى أعلى أو إلى أدنى عند أفلاطون، وهى كذلك فى ثقافة التخلف التى تبرر التراتب الطبقى بتأويلات دينية، تهدف إلى إضافة القداسة على هذا التراتب الذى لا ينبغى للإنسان تغييره، بل الرضا به، والعمل بما قسمه الله الذى جعله فى هذا الوضع أو ذاك.ولا غرابة أن يتصف الإنسان فى هذا التراتب القسرى، بصفة الجبر بمعناه الكلامى الفلسفى، وهو المعنى الذى ينفى عن الإنسان حرية الإرادة وحق الاختيار، فهو لا يشاء إلا بما شاء الله، وعليه الرضا بما هو مقسوم له، وما تقرر له حتى من قبل أن يوجد. ولا فارق كبيراً بين الإنسان المجبور والإنسان الاتَّباعى داخل بنية التراتب المفروضة، فالإنسان المجبور إنسان مقهور لا يملك القدرة على المبادرة الخلاقة، أو الفعل الجذرى، أو الاختيار الحر، فهو إنسان يسلم نفسه إلى الأقدار وولاة الأمر، ابتداء من الأسرة التى هى الوحدة الاجتماعية الصغرى، وانتهاء بالنخبة الحاكمة، عسكرياً أو مدنياً أو طائفياً أو قَبَلياً، فهو إنسان مبرمج على الاستسلام لقوى بشرية وغير بشرية يراها أعظم منه،كما يرى نفسه أضعف من أن يقاومها أو يخرج عليها، فلا يملك من أمر نفسه إلا ما يجعله الوجه الإنسانى للزمن المنحدر عن نقطة الابتداء فى الماضى الذى يتحول المستقبل إلى عود إليه، ولا يفارق هذا الإنسان دوائر الطاعة والتصديق فى كل مجال، والرضا بما يأتى به القضاء والقدر دون مقاومة أو تمرد، فالمقاومة كالتمرد خروج عن الناموس الإلهى والاجتماعى والسياسى فى آن. وطاعة هذا الله فيما قدّر على هذا الإنسان ويسّره له هى الموازى الدينى الذى تتأكد به طاعة السلطان وإن جار، والأساس الذى ينبنى عليه البعد السياسى الذى يدفع الإنسان إلى اتَّباع كل ما يتمسح فى الدين، أى دين، أو ينطق باسمه. وتعنى صرامة التراتب، من هذا المنظور القمعى، أمرين متلازمين: أولهما؛ غياب الحوار المجتمعى بين الفئات المتباعدة، المحصورة فى مداراتها المغلقة، وذلكم بما يؤدى إلى الانفجار والعنف فى حالات عديدة، نتيجة انعدام التواصل أو التفاعل أو الحراك. وثانيهما؛ وجود ثنائيات قائمة على التضاد الذى يعلو فيها الطرف الأول ليهيمن على الطرف الثانى فى كل الأحوال. هكذا يعلو فيها الأكبر سناً بالقياس إلى الأصغر، فالأول كنز للتجارب المختزنة، والحكمة التى لا يعرفها هوج الشباب، ويتميز الذكر عن الأنثى، والأصيل على الوافد، والقديم على الجديد، والثبات على الحركة، والنخبة على الجمهور، وعلم الخاصة المضنون به على غير أهله من الصفوة على معارف العامة التى لا وزن لها مثلهم فى المرتبة الاجتماعية الموازية للمرتبة المعرفية. وأضف إلى ذلك الأحرار مقابل العبيد والموالى فى المجتمعات القديمة، والبيض على السود، والأغنياء على الفقراء، حيث مجتمع اللامساواة الذى يحدد قيمة المرء بما يملك، أو ينتسب إليه أسرياً أو طائفياً أو قبلياً، غاضاً البصر عن أصل الثروة.”