“موت أبى فى نهاية العام أكثر ما مسَّنى، ولم أفهم مصدر حزنى العميق إلا بعدها بسنوات: لم يكن هذا حزنا على فقد الأب فحسب، بل على الزمن الذى يمضى بلا رجعة ولا يوقفه شىء أو أحد، حتى أقوى الناس فى نظرى. حين مات أبى شعرت أنى كبرت: انتقلت بين عشية وضحاها من طابق الصغار إلى طابق الكبار. صعدت إلى الطابق الأعلى الذى ليس فوقه طوابق أخرى، والذى لا يمكن النزول منه ثانية، مهما فعلت.”
“حين مات أبي شعرت أني كبرت . صعدت الي الطابق الأعلي الذي ليس فوقه طوابق أخري ، و الذي لا يمكن النزول منه ثانية ، مهما فعلت .”
“ليس عندى ما أضيفه هذا العام وأنا أتأرجح حول نفسى فى هذا الانتقال الدائم من المخادعة إلى الرخاوة إلى الاستناد على آخر يحتويك وينقذك من كل هذا العفن ويأخذك فى سفر لا ينتهى إلى مفازات - متاهات الوحدة ... إلى الوحدة... إلى الوحدة.ليس عندى ما أضيفة هذا العام. سأكتب إليك العام القادم.. ربما.”
“أعتقد أن قبولى هذه الوظيفة لم يكن فقط لهذه الأسباب، بل لأنى خفت. خفت أن أخرج من القصر الرئاسى إلى عالم لا أعرفه. صحيح أن الثورة فتحت لى آفاقا كنت أجهل وجودها، وجعلتنى أكتشف مِصر أخرى غير تلك التى عرفتها من قبل. وصحيح أن ذلك فتح فى حياتى أبوابا لبهجة جديدة علىّ، وصرت أرى حياتى القديمة ضيقة ومحدودة وأتعجّب كيف قضيت أربعين عاما فى هذا الإطار الخانق. لكن حين جاءت لحظة الاختيار بين أمان ما أعرفه واعتدته، والمجهول، خفت الخروج من المكان الوحيد الذى أعرف فيه الأمان، خفت أن أضيع إن تركت العالم الوحيد الذى لى فيه قيمة وأصبح عالة على أصدقائى أو حماى. بالمقارنة مع هذا الضياع المحتمَل، كان المقدم المنيسى يعرض علىّ الجلوس بجوار العرش، وربما القدرة على التأثير فى قراراته. ومن ثَمَّ قبِلت.”
“فى كل ما سبق هذا ما أندم عليه، كل هذا الوقت الذى ضاع والذى لا يمكننى استعادته، كل هذا الوقت الذى كان يمكننى قضاؤه معك، وتركته وتركتك”
“كنتُ حتى هذا اليوم أتغافل عن الموت، وأتظاهر بأنه لا يعنينى فى شىء؛ أقرأ عن أناس ماتوا، أعرف أناسا مات لهم أقارب وأحباء، أتابع الأخبار وأشاهد جثث القتلى فى الحروب التى لا تنقطع، وكلها بالنسبة إلىّ أرقام وأحداث، مثل المذكِّرات التى أكتبها فى عملى أو الترجمة التى أقوم بها. كم مرة ترجمت أحاديث عن قتلى وجرحى بالجملة، دون أن أشعر بشىء، دون أن أشعر أنى أنا شخصيا معنىّ بالموت ! وحين مات أبى مسَّنى موته فى أعماقى، وكان أول أجراس الإنذار التى دقَّت فى حياتى القصيرة، لكنى تغاضيت عنه بعد ذلك لسنوات طويلة. ثم ماتت أمى، ومن هذا اليوم حل الموت ضيفا مقيما فى حياتى. كأنه كسر الباب الذى حمانى، وأصبحت حياتى مَشاعا له يرتع فيه صباح مساء. سيظل مقيما معى، يحصد أرواح من أحب، حتى يجىء دورى، ربما غدا أو بعد غد. سنرى. لا داعى لاستباق الأحداث. لأعُد إلى حكايتى.”
“الحقيقة أنى كلما فكرت فى حياتى السابقة أفاجأ بأنى لا أندم على شىء فعلته بقدر ما أندم دوما على أشياء لم أفعلها.”