“فكرة ارتباط الدين بالدولة الشديد العمق في الوعي الشعبي الاسلامي دون شك قد تبخر منذ فترة طويلة بعد زوال الخلافة ونشوء الصراعات السياسية والدينية المختلفة وظهور السلاطين والسلطنات. وقد حاول الكثير من المفكرين المسلمين القدماء ان يفرقوا بين الخلافة والسلطنة على اساس استلهام الاولى لشريعتها في تطبيقها للشريعة الاسلامية, بينما لا تقوم شرعية الثانية الا على مبدأ الغلبة والقوة. وقد اعترف الكثيرون منهم, في سبيل حماية الملة اي الامة وصيانة وحدتها بضرورة التوصية باطاعة السلطان حتى لو لم يكن متمسكا بالشريعة ومطبقا لها.”
“ووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.”
“فمع الزمن وتطور البنيات الحديثة للجماعات الاسلامية برزت اكثر فاكثر الخصائص القومية في الاقاليم الاسلامية واصبحت عاملا اساسيا مكونا للشخصية وللوعي المحلي. كما زاد تأثير الدهرية نفوذا لدى الطبقات العليا والوسطى مع تناقص فاعلية الاعتقادات الدينية وتأثيرها على مجرى الحياة اليومية والانتاج. ونتجت عن ذلك هوة بين الانتماء الديني والانتماء الجنسي. وهناك الكثير من المسلمين الذين لا يتعرفون على انفسهم في الثقافة الاسلامية اليوم الا بشكل سطحي.وهذا نتيجة توسع انتشار الثقافة الغربية الحديثة وبسبب السياسة الثقافية التي بدأت تمارسها الدولة الاسلامية والعربية منذ القرن التاسع عشر.”
“للثقافة العليا وظيفة اساسية هي تحقيق شرعية السلطة. وهذه الشرعية تستند الى الاجماع الذي يشرطه الانخراط الطوعي للاغلبية في لائحة قيم مشتركة. وهذا الاجماع ضروري لبروز سلطة اغلبية. فاذا فقدت الثقافة العليا الشمولية والقومية التي تتجاوز التمايزات الثقافية, فقد الاجماع ولم يبق للسلطة اي اساس تقوم عليه الا بميزان القوى والغلبة. وفقد التطابق من ثم بين الثقافة والسلطة وفقدت الطبقة السائدة او النخبة السائدة وحدتها.”
“وبقدر ما تعكس فترة ظهور الاديان توسع الحضارة وتقدمها وانطلاقها بانطلاق هذه الاندفاعة المعنوية المجردة والصافية في مثاليتها تعكس الطائفية تدهور الحضارة وتترجم انحطاط الاخلاق واندثار المعنى. فهنا لا يظهر الصراع على المصالح في شكله الاكثر جزئية ومادية ولكنه يحاول اكثر من ذلك ان يستخدم التراث المثالي في سبيل تحقيق اهدافه الخاصة. انه عكس المثالية تماما, اي هو المادية الحقيقية والفعلية التي ليس لها حدود.لذلك نرى الاكثر عنفا في الحرب الطائفية والاكثر حماسا لها هم اولئك الذين ينكرون الدين بشكل عام او لا يمارسونه ولا يعتقدون به فعلا والذين لا يلعب الدين بشكل عام اي دور هام في صياغة سلوكهم الحياتي اليومي. فهؤلاء ليس لديهم اوهام كبيرة ويعرفون ان ما يقومون به هو سياسة محض, وان الدين ورقة يمكن لعبها طالما بقي هناك اناس حساسون لعقيدتهم الدينية وحريصون على الدفاع عنها.”
“منذ اواخر القرن التاسع عشر اصبح تأكيد الذات لدى الطوائف غير المسلمة يأخذ شكل هجوم على الذاتية السياسية الاسلامية المؤكدة بقوة في الدولة. وظهرت الدولة العلمانية كتنازل متبادل عن الذاتية يقوم على الغاء الطابع الديني للدولة الاسلامية, وليس كبناء لذاتية جديدة عصرية وقومية تتجاوز الدين.”
“في الوقت نفسه الذي كانت تتمسك في الجماعات الاسلامية بالدين للدفاع عن نفسها وتعبئة صفوفها ضد التسلط الاجنبي كان يدخل في الوعي الاسلامي شيئا فشيئا, وتحت تأثير الهزائم المتواصلة, الشعور بالضعف والعجز وعدم الثقة بالذات. وشعور المستضعفين هذا على الساحة الدولية يعادل شعور المستضعفين من الاقليات على الساحة المحلية. ويزيد من هذا الشعور تعقيدا ذكريات الامجاد الاسلامية التليدة التي كانت ترجع دائما في الثقافة الاسلامية الى التمسك بالدين وبالعودة الى النص القرآني لرأب الصدع وتحقيق الوحدة والاستقرار.”