“نستطيع ان نقول اكثر من ذلك ان الدولة - الامة اي الدولة القومية فعلا لا يمكن ان تقوم الا اذا كانت دولة تبني شرعيتها على تحقيقها للمطابقة والتماثل الثقافيين للجنس او للعرق. بل على دعوة اجتماعية قابلة للتحقيق ولتقديم الحلول والوسائل الكفيلة بتنظيم الحياة الاجتماعية وتقدم الجماعة. والدولة القومية التي تربط شرعيتها وتقدم شعبها بمجرد كونها مطابقة في حدودها لحدود التجانس الثقافي او العرقي, تلغي اسس شرعيتها كدولة, اي كمؤسسة سياسية تتجاوز التمايزات الثقافية والجنسية في المجتمع المدني, ولا تقوم الا بهذا التجاوز. والدولة التي تفترض نفسها الانعكاس المباشر للجماعة. او للمجتمع المدني, هي بالضبط الدولة التي تغطي فشلها السياسي بانغلاقها الثقافي, اي تغطي عجزها عن ان تكون سلطة فوق المجتمع المدني بتسمية نفسها دولة الشعب, وبالانخراط في المجتمع المدني نفسه وفي تناقضاته. وذلك بدل الارتفاع الى المستوى الذي يسمح بحل هذه التناقضات وتسويتها.”
“لا تنشأ مشكلة الاقلية الا عندما تكون هناك مشكلة اغلبية. اي عندما تعجز طبقة اجتماعية واسعة عن تحقيق مواطنيتها في الدولة وتفشل في تغيير هذه الدولة فتنكفئ الى حل مشكلتها, ليس على صعيد المجتمع السياسي لكن على صعيد المجتمع المدني, اي في اطار السلطة التي تملكها والواقعة غير الرسمية. وهذا ما يستدعي دراسة نشوء العصبوية من جهة, اي المجتمع المدني المستقل عن المجتمع السياسي والذي لا يجد فيه مرآته, وان تنشأ من جهة اخرى فكرة الجماعة غير القومية او المتميزة عن الاغلبية والرافضة لمثالها الاعلى.”
“ليس هناك في الواقع دولة دينية وان وجدت سلطة دينية. الدولة هي دائما زمنية اي مؤسسة اجتماعية تأخذ شرعيتها من قدرتها على تجاوز النزاعات التي يزخر بها المجتمع المدني. والدولة الدينية بالمعنى الحرفي للكلمة, اي التي تخضع لسلطة دينية مباشرة, تعكس مرحلة ازمة اجتماعية وقومية وتظل دولة انتقالية بدون شرعية كدول القرون الوسطة الاوربية.”
“ان الدولة (او المجتمع السياسي) لا تصبح ضرورية كعملية خلق للسلطة المجردة العليا الا لان التناقضات التي خلقها الثقافة والمصالح الاقتصادية المتعارضة في داخل المجتمع المدني, لا يمكن ان تجد حلها الا خارج هذا المجتمع, وفي اطار يخضع لقوانين اخرى هي قوانين الوحدة والائتلاف. فالسياسة تجنح الى المركزة والتجريد في حين ان الثقافة والاقتصاد يجنحان الى البعثرة والتنويع والتعارض. اما عندما تسود المجتمع المدني وحدة سديمية ثقافية واقتصادية تعكس التجانس العقلي المطلق بين الافراد, وظروف العمل والمعيشة المتماثلة ايضا, فلن يكون هناك حاجة للدولة او للسياسة. وهذا يمكن ان يحصل كفرضية نظرية في مجتمع كفاف مطلق.”
“تفترض الدولة القومية ان للجماعة ذات الثقافة المتميزة روحا خاصة عميقة تموت ان لم تجد تعبيرها السياسي المستقل. وقد كان هذا رد فعل طبيعي ضد الاستبداد الذي اخذت تفرزه الامبراطوريات ذاتها. ونريد هنا ان نميز بين مفهومين للأمة غالبا ما يثير الخلط بينهما التشويش السياسي.المفهوم الاول هو الذي يربط بين الجماعة الثقافية والجنسية المتميزة وبين قيام دولة مرتبطة بها جغرافيا, اما المفهوم الآخر الثاني فيقصد بالدولة القومية الدولة التي تعبر عن مصالح الجماعة او الجماعات التي تتكون منها, فتكون الدولة القومية عندما لا تمثل احتكار فئة اجتماعية للسلطة ضد الفئات الاخرى.”
“ووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.”