“ويترافق الانحطاط والانكماش الاجتماعيين بعودة التقسيمات العمودية التي تخلط انماط حياة متميزة ومتفاوتة بشدة بين الجماعات. كل مجتمع يتحول في مرحلة انحطاط نظامه الاجتماعي الى مجتمع عصبوي. ومن صراع العصبويات ينشأ النظام الجديد الذي لا يقوم الا بتحييد التمايزات العمودية وإلغائها. وكسر الحدود الطائفية. لا تقوم الوحدة الاجتماعية اذن على ازالة كل تمايز ونزاع ولكنها تقوم على تحويل التمايز من تمايز قاطع يشق المجتمع الى جماعات كاملة الاختلاف تمنع اي حراك وتجعل الصراع على السلطة صراعا ميكانيكيا عصبويا, الى تمايز قائم على النزاع من اجل نموذج او مثال واحد يحتذى.”
“لا بد من التخلي عن الاعتقاد السائد الذي يرجع الطائفية الى التمايز الثقافي او الديني الموجود في مجتمع من المجتمعات. فهذا التمايز الذي يوجد في كل البلدان يمكن ان يكون اساسا للغنى الثقافي والانصهار كما يمكن ان يكون وسيللة للتفتت. واذا بقينا على هذا الاعتقاد السائد اضطررنا الى البحث عن حلول للمشكلة على المستوى الثقافي وحده وهنا لن تجد اي مخرج على الاطلاق.فالطائفة الاكبر تميل الى الاعتقاد ان تصفية التميزات الثقافية هو شرط الوصول الى اجماع يخلق الوحدة والانصهار. وتكمن وراء ذلك فكرة ان فقدان الاجماع السياسي مصدره غياب اجماع فكري او ديني بينما العكس تماما هو الصحيح. والبعض يمكن ان يفكر ان هذا وحده يمكن ان يساعدنا على ان ننتقل من الصراع الطائفي الى الصراع الطبقي ويفتح من ثم طريق التغيير والتحول والتقدم. اما الطوائف الصغرى فتميل ايضا, من نفس المنطلق الى تضخيم مشكلة التمايز الثقافي وتأكيدها لتحويلها الى مشكلة هوية شبه قومية مصغرة واداة سياسية وتعويض عن السلطة الفقودة كفردوس. وهذا يعكس في الحقيقة ميل الصراع الاجتماعي في مثل هذا المجتمع بشكل عام الى ان يحافظ على شكله كصراع عصبوي ودائري.”
“ووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.”
“نستطيع ان نقول اكثر من ذلك ان الدولة - الامة اي الدولة القومية فعلا لا يمكن ان تقوم الا اذا كانت دولة تبني شرعيتها على تحقيقها للمطابقة والتماثل الثقافيين للجنس او للعرق. بل على دعوة اجتماعية قابلة للتحقيق ولتقديم الحلول والوسائل الكفيلة بتنظيم الحياة الاجتماعية وتقدم الجماعة. والدولة القومية التي تربط شرعيتها وتقدم شعبها بمجرد كونها مطابقة في حدودها لحدود التجانس الثقافي او العرقي, تلغي اسس شرعيتها كدولة, اي كمؤسسة سياسية تتجاوز التمايزات الثقافية والجنسية في المجتمع المدني, ولا تقوم الا بهذا التجاوز. والدولة التي تفترض نفسها الانعكاس المباشر للجماعة. او للمجتمع المدني, هي بالضبط الدولة التي تغطي فشلها السياسي بانغلاقها الثقافي, اي تغطي عجزها عن ان تكون سلطة فوق المجتمع المدني بتسمية نفسها دولة الشعب, وبالانخراط في المجتمع المدني نفسه وفي تناقضاته. وذلك بدل الارتفاع الى المستوى الذي يسمح بحل هذه التناقضات وتسويتها.”
“ان المجتمع المسلم انما ينشأ من انتقال افراد ومجموعات من الناس من العبودية لغير الله معه او دونه الى العبودية لله وحده لا شريك له ثم من تقرير هذه المجوعات ان تقيم نظام حياتها على اساس هذه العبودية وعندئذ يتم ميلاد جديد لمجتمع جديد مشتق من المجتمع الجاهلى القديم ومواجه له بعقيدة جديدة ونظام للحياة جديد يقوم على اساس هذه العقيدة وتتمثل فيه قاعدة الاسلام الاولى بشطريه ...شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله ...وقد ينضم المجتمع الجاهلى القديم بكامله الى المجتمع الاسلامى الجديد او يجاريه وان كانت السنة قد جرت بان يشن المجتمع الجاهلى حربا لا هوادة فيها سواء على طلائع هذا المجتمع فى مرحلة نشوئه وهو افراد ومجموعات او على هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلا وهو ماحدث فى تاريخ الدعوة الاسلامية منذ نوح عليه السلام الى محمد عليه الصلاة والسلام بغير استثناء..”
“الطائفية هي التعبير السياسي عن المجتمع العصبوي الذي يعاني من نقص الاندماج الذاتي والانصهار, حيث تعيش الجماعات المختلفة بجوار بعضها البعض لكنها تظل ضعيفة التبادل والتواصل فيما بينها. وهي تشكل الى حد ما الطريقة الخاصة بالتواصل الذي هو في ذاته نوع من التواصل الصراعي, في هذا المجتمع المتحلل والفاقد ليس فقط للصعيد الموحد السياسي او الاديولوجي او الاقتصادي ولكن ايضا لكل اجماع على اي مستوى من مستويات البنية الاجتماعية.”