“كلنا بدأنا حياتنا في غرفة صغيرة دافئة اسمها الرحم، وفي هذه الغرفة كنا ننام في أمان وتركنا الطبيعة تتولى أمرنا وتقوم على خدمتنا ، لا قلق ، لا خوف ، لا شك ، ولماذا القلق وكل شئ يصلنا حتى أمعائنا ، والأكسجين يصلنا جاهزا دون أن نحرك رئاتنا ، الفضلات يغسلها دم الأم ، ثم فجأة تطردنا قوة مجهولة وتقذف بنا من الدفء والأمان إلى دنيا واسعة مجهولة.وشيئا فشيئا من الطفولة إلى الصبا إلى الشباب يتم انتقاله إلى البيت الواسع الكبير الذي اسمه المجتمع ، والإنسان الطبيعي الذي انتقل في كل أدوار حياته انتقالات طبيعية وتكاملت شخصيته من مرحلة إلى مرحلة ينزل إلى الحياة كما ينزل في رحلة خلوية جميلة مليئة بالمفاجآت ، ويغامر في هذه الحياة بملء نفسه دون أن يخشى أن يخسر نفسه، وقد امتلأ إحساسا بأنه حر وأنه قادر ومسئول، وأنه يستطيع أن يفعل شيئا، وأن فاعليته يمكن أن تمتد إلى عائلته وإلى جيرانه وإلى بلده وإلى المجتمع والدنيا والإنسانية والتاريخ.ولكن الأمر يختلف كثيرا إذا كان هذا الإنسان قد تلقى صدمة عنيفة قطعت الطريق على تطوره، وخنقت روحه وهي تأخذ أول أنفاسها. وهناك ألف نوع ونوع من الصدمة منها: المرض الحاد الذي يلم بالطفل وهو في باكورة حياته فيقعده، الحياة في بيت لا يكف فيه الشقاق والخناق بين الأم والأب، شعور الابن أنه الطفل المكروه وأن العائلة تفضل عليه أخاه، الشعور بالنقص نتيجة العاهة أو اللون أو الانتماء لأقلية منبوذة، الفشل في المدرسة والإفلاس في العمل والخيبة في الحب والشعور بالذنب.ونتيجة هذه الصدمات أن يتوقف التطور الطبيعي ويتوقف نمو الشخصية، وبدلا من الروح التي كانت في طريقها إلى الدنيا والتعامل مع الحياة، تعود هذه الروح فتنضم على نفسها، تنكمش وتلتصق كما يلتصق الجنين بالرحم، والنفسانيون يسمون هذه الحالة بالنكوص،وعلاج المصدوم لا يكون بإعادة الصلة بينه وبين الناس، ولكن بإعادة الصلة بينه وبين نفسه،فالعلاج هو الإفشاء، والمفاتحة، والمكاشفة، والمناجاة الحميمة بين يدي صديق، أو حبيب، وحينما لا نجد الحب ولا نجد الصداقة، فمعناها أننا لم نجد القلوب الكبيرة وهي نادرة مثل كل شئ نادر، بعكس القلوب الصغيرة فهي موجودة بكثرة النمل.”
“ليس من صالح المجتمع أن يذيب أفراده في داخله وأن يحولهم إلى أصفار وإلى تشكيلات من النمل .. وإنما عليه أن يختفظ لكل فرد نطاقاً من الحرية يتنفس فيه وبهذا يكتسب مرونة وقوةوقدرة على البقاء .. ويصبح كالخزف الثمين الذي لا يقبل الكسر”
“* في لحظة الحب ينفتح شئ فينا ليس الجسد بل ما هو أكثر بوابة الواقع كلها تنفتح على مصراعيها فتتلامس الحقائق والمعاني الجميلة والمشاعر التي يحتوي عليها الحبيبان. ويحدث الانسجام من هذا التماس بين الأفكار والمعاني والأحاسيس الرقيقة..ويخيل للأثنين في لحظة أنهما واحد. ويسقط آخر قناع من أقنعة الواقع ..فتذوب الأنانية التي تفصلهما ويصبحان مصلحة واحدة وفكرة واحدة.. ولكنها لحظة خاطفة لأن الواقع الصفيق ينسدل من جديد بين الحبيبيين فيعود الهم يعزلهما الواحد عن الآخر .. هم الزمن والساعة التي آزفت والميعاد الذي انتهى والوقت الذي حتم على كل منهما أن يعود إلى عمله وهم المكان الذي يعزلهما كل واحد في بلد وهم الجسد الذي يحوي كل منهما في كيان مستقل من اللحم والدم وهم المجتمع الذي يحتوي على الآثنين ويطالبهما بالتزامات وواجبات وهم الماضي الذي يدخل كشريك ثقيل الظل في كل لحظة.. إننا لا نعيش وحدنا بل هناك الآخرون وكلهم ينازعون حريتنا ولقمتنا وحياتنا. وفي هذا الزحام نضيع ويطمس الواقع أحلامنا ويأخذنا معه في دوامة من التكرار السخيف من الآكل والشرب والنوم لا نفيق منها إلا لنغيب فيها من جديد وتمضي حياتنا في روتين ممل لا نلتقي فيه بأنفسنا أبدًا ولا نذوق الحب ولا نعرفه.إن الشهوة شئ غير الحب إنها أقل من الحب بكثير فهي رغبة النوع وليست رغبة الفرد إنها علاقة بين طبيعتين وليس علاقة بين شخصين علاقة بين الذكورة والأنوثة..والفرد لا يكشف فيها عن نفسه ولكنه يكشف نوعه وذكورته والحب لا يحتوي على الشهوة ولكن الشهوة لا تحتوي عليه..بالحب لا تكشف فقط إنك ذكلا ولكنك تكشف أيضًا أنك فلان وأنك اخترت فلانه بالذات ولا يمكن أن تستبدلها بآخرى. إن كلمة أحبك هي أعمق وأجمل كلمة في حياة الرجل لأنها ليس مجرد كلمة وإنما هي نافذة يطل منها على حقيقته وسره.والحب الذي أعمق من كل حب لا يفجره في القلب إلا التصوف والشعور الديني. لأن الدين هو الذي يعيد الإنسان إلى النبع الذي صدر منه ويأخذا بالإنسان الساقط في الزمان والمكان ليرفعه إلى سماوات الأبدية ولا يرفعه إلى هذه السماوات إلا الحب الذي يفنى العابد عن نفسه وعن الدنيا شوقا إلى خالقه.”
“إن الحب كقيمة مطلقة سرٌ كبيرٌ من اسرار الدنيا ، لا يعيه إلا الإنسان المحظوظ النقي القادر دوماً على تجديد شباب قلبه بالعطاء والتسامح. يبدأ الإنسان منا حياته متدفقاً بالحب والحنان والتفاؤل والثقة ثم يجف هذا النبع العاطفي في قلبه كلما كبر ، ويتحول مع الزمن إلى عجوز أناني بخيل لا يحس إلا مصلحته ولا يجري إلا خلف منفعته ، والسبب أن أحلامه الصغيرة وعواطفه الصافية تصطدم مرة بعد مرة بما يخيب أمله ويزلزل ثقته في الدنيا وفي الناس -يتعثر الإنسان في مشوار حياته ومع تكرار العثرات والتجارب الفاشلة لا يجد في قلبه رصيداً يغطي هذا الفشل ، ويحفظ له ابتسامته وتفاؤله فيفقد النضارة ويجف ويقسو ، ويتحول سخطه إلى سخط على الدنيا كلها والسبب أنه لم يجد كفايته من الحنان ، لم يجده في الدنيا ولم يجده في قلبه فأفلس . والدليل على هذا أن القلب الكبير لا يحدث له هذا الجفاف مهما كبر وشاخ لأنه يجد في نفسه القدرة على بذل الحنان دائماً مهما حدث له ومهما تلقى من صدمات . وبهذه القوة وحدها يسترد حب الناس الذي فقده ويسترد ثقته في الدنيا”
“لا تكاد هذه الألفاظ تتجاوز أذنيك إلى عقلك فضلا عن أن تتجاوزها إلى قلبك وإلى ضميرك فتثير فيهما عاطفة أو هوى أو ميلاً، وتدعوك إلى أن تقدر الحياة كما ينبغي أن تقدر الحياة. صدقني أنكم لا تدرسون الشعر ولا تدرسون الأدب، وإنما تدرسون ألفاظاَ ومعاني وصوراً ليست من الشعر ولا من الأدب في شيء.”
“لأصل للفن أنه وجدان مفتوح على الكون، إنه قلب اتسعت أقطاره لترى ما في الدنيا مما صنع الله فيها من جمال."من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، وأنا أرفض أن يجيء إنسان فيفرض انسحابه من هذه الدنيا على الناس، ويقول لهم: اتركوا هذه الفنون، لا، لا أتركها "وهناك أناس اتصلوا بالدين من جانب ضيق فيه، وأحبوا ويحبون أن يكون الدين كآبة، ويحبون أن تكون نظرتهم له نظرة فيها ضراء وبأساء، وهذا مرفوض، فإن الله (سبحانه وتعالى) لما شرح لنا علاقة الخلق به لم يشرحها على هذا النحو، بل قال: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون" (الأعراف: 32)، أي هي لهم في الدنيا يشاركهم فيها غيرهم من الكفار، ولكنها تخلص لهم وحدهم يوم القيامة، وبين أن الذي حرمه معروف "قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" (الأعراف: 33).من غير شك، الفنون ينبغي أن يكون لها مجال في حياتنا، وألفت النظر إلى أن الإباحة هي الأصل في الكون "هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا" (البقرة: 29). أنا أرى أنه من الممكن أن تتحول الفنون إلى عوامل بناء لا إلى عوامل هدم، وأنا أرفض أن يجيء إنسان فيفرض انسحابه من هذه الدنيا على الناس، ويقول لهم: اتركوا هذه الفنون، لا، لا أتركها، أنا أحولها إلى ما يخدم مبادئي وأهدافي.”
“ما هي العاطفة المهتاجة في نفس الإنسان اهتياجا لا يريه الحياة أبدا إلا أكبر أو أصغر مما هي ؟؟ما هو المعنى الساحر الذي يأتي من القلب والفكر معا ثم لا يأتي إلا ليحدث شيئا من الخلق في هذه الطبيعة ؟؟ما هو ذلك الأثر الإلهي الكامن في بعض النفوس مستكنا يتوثب بها ويحاول دائما ان يعلو إلى السماء لأنه غريب في الأرض ؟؟وما هو الشعر ؟؟هذه الأسئلة الأربعة يختلف بعضها عن بعض وينزع كل منها إلى منزعولا جواب عليها بالتعيين والتحديد في عالم الحس ،لأن مردها إلى النفسوالنفس تعرف ولا تنطق،وشعورها إدراك مخبوء فيها وهي نفسها مخبوءة عنا ...”