“أن علل الأمم لا تداوى بالارتجال السريع، والرغبة النزقة. والشبان الذين يظنون الإسلام يمكن أن يقوم بعد انقلاب عسكرى أو ثورة عامة لن يقيموا إسلاما إذا نجحوا!فإن الدولة المحترمة وليد طبيعى لمجتمع محترم، والحكومة الصالحة نتيجة طبيعية لأمة صالحة! أما حيث تتكون شعوب، ماجنة وضيعة فسيتولى الأمر فيها حكام من المعدن نفسه (وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون). والاتجاه إلى الجماهير لغرس العقائد وتزكية الأخلاق وإنشاء تقاليد شريفة، وإقامة شواخص ماجدة ترنو إليها البصائر، وإقامة الصلاة جماعة بعد جماعة، أعنى وقتا بعد وقت من الفجر إلى العشاء، وتحصين الرجال والنساء ضد الانحراف والانحلال، والتغلغل فى الأسواق والميادين والمنظمات والنقابات لإحياء كلمات الله وإنفاذ وصاياه.. ذلك كله كان طريق الأنبياء وحوارييهم ومن نهج نهجهم.. ولم تقع معركتا بدر والفتح إلا بقدر أعلى انساق إليه المسلمون دون خطة سابقة أو إعداد مبيت..!!. أعرف أن عددا من الحكومات مرتد عن الإسلام يقينا، وأنه لن يذخر وسعا فى مقاومة المد الإسلامى وفتنة أهله، وعلاج ذلك يتم بالتزام الخط الذى رسمه الأنبياء، والصبر على لأوائه وضرائه، فهو ـ وان طال المدى ـ أقصر الطرق إلى الوصول، وأولاها برعاية الله، وأبعدها عن الأطماع والشبهات.. ولا تحسبن هذا الخط أبعد عن المخاطر وأقرب إلى السلامة، إنه صعب التكاليف ثقيل الأعباء، وقد رأيت أعداء الإسلام يرقبون هذا الخط بحذر ويرون أصحابه هم الأعداء الحقيقيون لهم. إن قصة خدمة الإسلام عن طريق الانقلابات والثورات راودت أناسا لهم إخلاص وليست لهم تجربة، ولم تنجح من سنين طويلة هذه المحاولات، ورأيى أنها لو نجحت فإلى حين، ثم يبدأ الجهاد لتنظيف الشعوب من أقذائها، وإحداث تغيير جذرى فى أخلاقها وعاداتها! أى أننا سنرجع إلى الإصلاح الشعبى عن طريق الشعب نفسه لا عن طريق الأوامر الرسمية.لست أنكر قيمة السلطة فى اختصار المسافة، وإقرار المعروف ومحو المنكر، وإنى أعلم أن الدولة جزء من الدين، وأن أجهزتها الفعالة جزء من شعب الإيمان السبعين.. وكون الحكم من شعائر الإسلام حقيقة لا يمارى فيها إلا جاهل أو جاحد...!. وهذا كله لا يلغى ولا يوهن عمل الأمة نفسها فى تثبيت العقائد والأخلاق والعادات الحسنة، وفى إعلاء سلطان الضمير وتتبع مسارب السلوك الخفية والجلية، وفى فرض رقابة دقيقة على أجهزة الحكم، وإبطال شرعيتها إن هى نسيت وظيفتها أو جاوزت حدودها.. إن الدولة فى الإسلام صورة ظاهرة لباطن الأمة، وهى يدها التى تحقق بها ما تبغى، وقدمها التى تسعى بها إلى ما تريد.. بيد أن ضراوة الطباع البشرية السافلة قلبت هذا كله رأسا على عقب، وأمكنت ناسا من عبيد ذواتهم أن يفهموا الحكم على نحو آخر، إنهم لم يفهموه عبادة لله بل سيادة على الآخرين، ولم يفهموه أمانة ثقيلة العبء بل فهموه مغنما لذيذ الطعم، وتطاولت هذه الحال على الأمة المنكوبة فأصابها من الضياع ما أصابها....”