“ولأنّ (الإنسان) منذ مولده قد استودع فطرة باطنة بعيدة الغور في أعماقها، توزعه، (أي تلهمه وتحرّكه)، أن يتوجّه إلى عبادة ربّ يدرك إدراكا مبهما أنّه خالقه وحافظه ومعينه، فهو لذلك سريع الاستجابة لكلّ ما يلبّي حاجة هذه الفطرة الخفيّة الكامنة في أغواره. وكلّ ما يلبّي هذه الحاجة، هو الذي هدى الله عباده أن يسمّوه (الدّين)، ولا سبيل البتّة إلى أن يكون شيء من ذلك واضحا في عقل الإنسان إلا عن طريق (اللّغة) لا غير، لأن (العقل) لا يستطيع أ، يعمل شيئا، فيما نعلم، إلا عن طريق (اللغة). فالدّين واللّغة، منذ النشأة الأولى، متداخلان تداخلا غير قابل للفصل”
“فثقافة كل أمّة مرآة جامعة في حيّزها المحدود كل ما تشعّث وتشتّت وتباعد من ثقافة كل فرد من ابنائها على اختلاف مقاديرهم ومشاربهم ومذاهبهم ومداخلهم ومخارجهم في الحياة. وجوهر هذه المرآة هو (اللغة)، و(اللغة) و(الدين)، كما أسلفت، متداخلان تداخلا غير قابل للفصل البتّة. فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، (ثقافة) يمكن أن تكون (ثقافة عالمية،)،أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعا ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلّق برفض سيطرة أمّة غالبة على أمم مغلوبة، لتبقى تبعا لها.”
“العقل الذي لا يتصور أن الحياة البشرية قادرة على صنع الحضارات، بلا استناد إلى طريقة العيش الغربية واعتناق مبادئ الحضارة الغربية عقل قد أسقط من حسابه أن الحضارات، قامت وبادت, من قبل أن تكون الحضارة الغربية وأصولها جميعا على ظهر الأرض, وأن هذه الحضارات إذا بادت واستؤصلت، فالإنسان أيا كان بعد ذلك, قادر على أن يبني حضارة جديدة تناقض هذه الحضارة الغربية في طريقة العيش، وفي المبادئ التي يدعيها”
“باطلٌ كلّ البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه , ثقافة يمكن أن تكون ( ثقافةً عالميّة ) , أي : ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا ويمتزجون على اختلاف لغتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم .. فهذا تدليسٌ كبيرٌ , وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم , هدفٌ آخرُ يتعلق بفرض سيطرة أمةٍ غالبةٍ على أممٍ مغلوبة , لتبقى تبعًا لها .. فـ الثقافات متعددة بتعدد الملل, ومتميزة بتميز الملل , ولكل ثقافةٍ أسلوبٌ في التفكير والنظر والاستدلال منتزعٌ من الدين الذي تدين به لا محالة .. فـ الثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش , ولكن لا تتداخل تداخلاً يُفضي إلى الامتزاج البتّة , ولا يأخذُ بعضها عن بعضٍ شيئًا , إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال , فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدلته وخلصته من الشوائب , وإن استعصى نبذتْهُ وطرحتْه ”
“المستشرقون والمبشرون هم في الحقيقة جماعة لم يصلحوا لشيء من بلادهم، أو لم يطيقوا أن يكونوا شيئا مذكورًا، فيسرهم الله لما يسرهم له من الاستشراق والتبشير. ولو أن أحدهم كتب كتابًا في تاريخ أمته، بمثل العقل والمنطق اللذين يكتب بهما في تاريخ الإسلام، لكان مصير ما يطبع منه أن يظل مطروحًا عند ناشره، حتى يفتح الله عليه فيبيعه بالجملة لمن يستعمله لشيء يُتقَزَر منه غير القراءة”
“وأخطر هذه الألسنة التي تستفزُّ هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغوًا على عذباتها.......وأخطر هذه الألسنة التي تستفزُّ هذا العالم، هي الألسنة التي اتخذت كلمة الإسلام لغوًا على عذباتها -أي أطراف الألسنة-، لا لأنَّها أعظم شأنًا وأعزُّ سلطانًا من الألسنة الأخرى، ألسنة المموِّهين باسم الحرية، واسم العلم، واسم الفنِّ، واسم الأخلاق، بل لأنَّها تعمد إلى كتاب أنزله الله بلاغًا للناس، وحكمة أوحيت إلى رسوله لتكون نبراسًا للمهتدين، فتحيلهما إلى معان من أهواء النفوس، التي لا تعرف الحقَّ إلا في إطار من ضلالاتها وأوهامها....ثم يتبعهم التابعون الجاهلون اتباعًا، هو سمعٌ وطاعة، لكن لغير الله ورسوله، بل للزُّور المدلَّس على كتاب الله وسنة رسوله. وإذا هؤلاء المتبعون يعدُّون هذه الضلالة دينًا، ويظنُّون هذا الدين الجديد إحياء للإسلام. وإذا هم يأخذون دينهم من حيث نهوا أن يأخذوا.... يأخذونه عن مبتدع في الدين برأيه، محيل لنصوصه بفساد نشأته، مبدِّل لكلماته بهوى في نفسه، محرِّف للكلم عن مواضعه بما يشتهي وما يحبُّ، مختلس لعواطف الناس بما فيه من حبِّ اتباعهم له، خادع لعقولهم برفعة الإسلام، ومجد الإسلام، وهو لا يبغي الرفعة ولا المجد إلا لنفسه.”
“(أرأيت قطّ رجلا من غير الإنجليز أو الألمان مثلا، مهما بلغ من العلم والمعرفة، كان مسموع الكلمة في آداب اللغة الإنجليزية، وفي حياة المجتمع الإنجليزي ، يدين له العلماء بالطاعة والتسليم)؟ أليس غريبا أن يكون غير الممكن ممكنا في ثقافتنا نحن وحدها، دون سائر ثقافات البشر قديمها وحديثها؟ غريب عجيب لا محالة.”