“لست أذكر كيف ومتى توالت الحوادث بعد ذلك، فقد جعلت الذكريات في رأسي تمحى في الوقت الحاضر.وكل ما أذكره في وطيس المعركة أن النقيب (الكابتن) ألميدا أقبل نحوي يسأل عن الأوامر. ولكن لم يكن هناك إنسان كي يصدر الأوامر. فقد علمت بعد حين أن فيديل كان وقتها يحاول عبثاً تجميع الرجال في حقل القصب المجاور، وكان يكفي من أجل الوصول إليه اجتياز العراء الفاصل بيننا وبينه. لكن المفاجأة كانت شديدة جداً، كما أن النيران كانت حامية الوطيس. ورجع أليمدا إلى جماعته ليهتم بأمرها، وفي هذه اللحظة ترك أحد الرفاق صندوقاً للرصاص عند قدمي، وعندما نبهته إلى ذلك أجابني بوجه أتذكره جيداً، بسبب الألم الذي ارتسم عليه، بكلام من هذا القبيل:"ليس هذا وقت صناديق الرصاص".هل سأكرس نفسي للطب أم لواجبي كجندي ثوري؟ربما كانت هذه أول مرة يواجهني فيها اللغز بعبارات عملية، فقد انتصبت أمامي حقيبة المعدات الطبية وصندوق الرصاص الذي تخلى عنه الرفيق، وكان ثقلهما يمنعني من حملهما معاً، فعليَّ إذاً أن أختار أيهما أحمل. وحملت صندوق الرصاص ثم توجهت إلى العراء الذي يفصلني عن القصب.”
“سأكتبُ هذه الكلمات المرتعشة ، وسأبسط رعدة قلبي في ألفاظها ومعانيها ، أكتب عن (..) ذلك الاسم الذي كان سنة كاملة من عمر هذا القلب ، على حين أن السعادة قد تكون لحظات من هذا العمر الذي لا يعدّ بالسنين ولكن بالعواطف ، فلا يسعني لا أن أرد خواطري إلى القلب لتنصبغَ في الدم قبل أن تنصبغ في الحبر ثم تخرج إلى الدنيا من هناك بل ما يخفق وما يزفر وما يئنّ . " من هناك" ! آه . من ترى في الناس يعرف معنى هذه الكلمة ويتسع فكرهُ لهذا الظرف المكاني الذي أشير إليه ؟ إنّ العقل ليمد أكنافه على السموات فيسعها خيالا كما ترى بعينيك في ماء الغدير شبكة السماء كلها محبوكة من خيوط الضوء ، مفصّلة بعقد النجوم . ولكن هناك ؛ في القلب ؛ عند ملتقى سر الحياة وسر محييها ؛ في القلب ؛ عند النقطة التي يتقطع فيها الطرف بينكَ وبين من تحب ، حين تريد الجميلة أن تقول لك أول مرة أحبك ؛ ولا تقولها . هناك ؛ في القلب ؛ وعند موضع الهوى الذي ينشعب فيه خيط من نظرك وخيط من نظرها فيلتبسان فتكوّن منهما عقدة من أصعب وأشد عقد الحياة . هناك ؟ هذا معنى "هناك " .”
“الموت.إنّ أحدنا ليفكر كثيراً خلال مسيرة الحياة بأنه في يوم ما، بعد سنوات، بعد شهور، بعد أسابيع أو بعد أيام تحضيرية، سيصل بدوره إلى عتبة الموت. إنه القانون المحتم، المقبول والمنتظر، مهما اعتدنا السماح لأنفسنا بحمل الرّضا في الخيال عن هذه اللحظة، العليا بين جميع اللحظات التي سنلفظ فيها نفسنا الأخير.ولكن، في هذه اللحظة الأخيرة في هذا النفس الأخير، ماذا عن الأحلام والقلق والآمال، والآلام التي كانت موضع اعتداد في حياتنا!ما الذي ما زال يخبئه لنا هذا الوجود المليء بالقوة قبل زواله من المسرح الإنساني!هذا هو العزاء والمتعة والسبب في شرودنا الجنائزي:أبعيد جداً هو الموت، وغير متوقع هذا الذي بقي علينا أن نحياه.”
“إنني لم أعرف الكثير جداً من هذه الدنيا، ولم أعرف إلا القليل جداً من نفسي.. فعيناي مفتوحتان على الدنيا، ولكنني بلا عينين عندما أنظر إلى داخلي.. إلى الزحام داخلي.. إلى الوحشة المظلمة في أعماقي.. إلى الإنسان الذي نسيته يصرخ ولا أسمعه ولا أتبينه.. ولا أعتقد أنني سأستطيع يوماً ما.. فقد اتسعت المسافة بيني وبينه.. أو.. بيني وبيني.. وإنني في حاجة إلى ترجمان. ترجمان صديق.. يخبرني ماذا أريد أن أقول لنفسي.. ماذا أريد من نفسي، ماذا أستطيع.. ما الذي أقدر عليه..”
“يوم أن قال عقيل أخو علي بن أبي طالب:" إن صلاتي مع علي أقوم، وطعامي عند معاوية أدسم".إن هذه الحياة النفسية المنقسمة بين الطعام والصلاة كان من أعراض الصراع بين الفكرة والشيء، وقد واصل هذا الصراع طريقه منذ ذلك الوقت. وعندما فكر الغزالي بعد مضي أربعة قرون أن يجدد في العلاقة الدينية بين المجتمع المسلم والعالم الثقافي كان الآوان قد فات، فقد كانت المرحلة الثالثة من الحضارة قد بدأت، ولم يكن بمقدور المجتمع الإسلامي إلا أن يواصل انحدراه حتى يصل إلى عصر ما بعد الموحدين، ولم يكن بمقدوره وهو يسترسل في المنحدر المشؤوم أن يسترد توازنه الأصلي.”
“وكان في البيت طفل صغير ممتليء نشاطاً وكان أميل إلى الصخب والصياح لا يهدأ ولايخضع لأمرِ يؤمر به ولكنه كان إذا نظرت إليه هذه المريضة هدأت ثائرته وأقبل عليها وصعد إلى سريرها وجلس بجانبها أهدأ ما يكون وكان شديد الحدب عليها .. رأى بعضهم يريد إغلاق بابها دونه فغضب وهدد من يحاول ذلك مرة أخرى كأنه يخشى أن يؤذيها الناس إن لم يكن عليها رقيباً .. وكان كل من في البيت يشعر أن بين روح هذا الطفل وروح هذه المريضة تواؤماً واتفاقاً عجيبين،كأن الأرواح لا عمر لها وكأنها حين تتفق لا يعنيها مايكون بين أصحابها من اختلاف في السن”