“الجماعة تتكون من قوى اجتماعية وسياسية وثقافية متعددة ومتعارضة بالضرورة والا لما كان هناك حاجة لا للسياسة ولا الثقافة. وبقدر ما تستطيع الجماعة ان تجد حلولا للتناقضات التي تختمر في حجرها, تستطيع ان تقيم وحدتها السياسية والثقافية. لكن هذه الحلول ليست متماثلة دائما. فيمكن لوحدة الجماعة ان تستند الى غلبة فئة على الفئات الاخرى. واكثر الاشكال تجسيدا لذلك هو الحكم الاجنبي. وآلية الاستعمار الاجنبي والاستعمار الداخلي واحدة في الحقيقة. الا ان هذه الوحدة المفروضة بالغلبة لا تستطيع ان تقاوم المعارضة الداخلية الى ما لا نهاية, واذا حدث ونجحت في مقاومتها هذه فرضت على الجماعة التقهقر الكامل والفناء. والجماعة التي تستطيع ان تقيم وحدتها على اجماع قومي يعكس قبول الاغلبية للسلطة القائمة وانتمائها الطوعي للقيم الثقافية السائدة هي التي تتحول الى امة, حيث تتوثق وتتعمق روابط الجماعة السياسية والثقافية ويتغلب عامل التضامن والتكاتف الداخلي على عامل التفرقة والانقسام والمواجهة. وجوهر هذا الاجماع ثقافيا كان ام سياسيا هو اشراك الاغلبية في السلطة, اي في صياغة القرارات التي تتعلق بمصلحة الجماعة ككل. ويزول الاجماع بزوال المشاركة وبظهور الاستبعاد الثقافي او السياسي. ونوع هذا الاستبعاد للفئات المكونة للجماعة هو الذي يحدد شكل الاستبعاد القائم.”
“يغطي مفهوم الامة الخلط بين الاجماع القومي الحقيقي وبين الوحدة الاصطناعية المفروضة بالقوة ويجعل من المستحيل فهم تطور الامم والحضارات. وهو مفهوم ايديولوجي. اما المفهوم الاصيل فهو مفهوم الجماعة. ودراسة وتحليل تطور علاقات الجماعة الداخلية من جهة ونشوء الدولة والمجتمع المدني منها من جهة اخرى هي التي تستطيع ان تظهر كيف تتحول الجماعة الى امة او تبقى مجموعة من العصبويات المتجاورة والمتعادية.”
“تفترض الدولة القومية ان للجماعة ذات الثقافة المتميزة روحا خاصة عميقة تموت ان لم تجد تعبيرها السياسي المستقل. وقد كان هذا رد فعل طبيعي ضد الاستبداد الذي اخذت تفرزه الامبراطوريات ذاتها. ونريد هنا ان نميز بين مفهومين للأمة غالبا ما يثير الخلط بينهما التشويش السياسي.المفهوم الاول هو الذي يربط بين الجماعة الثقافية والجنسية المتميزة وبين قيام دولة مرتبطة بها جغرافيا, اما المفهوم الآخر الثاني فيقصد بالدولة القومية الدولة التي تعبر عن مصالح الجماعة او الجماعات التي تتكون منها, فتكون الدولة القومية عندما لا تمثل احتكار فئة اجتماعية للسلطة ضد الفئات الاخرى.”
“ووحدة التشكيلة الاجتماعية التقليدية الموروثة بقيت عندنا في الواقع هشة نسبيا خاصة عند التماس بمتطلبات المجتمع العصري القائم على علاقة تنكر تدخل الدين في السياسة وتقيم الوحدة القومية على اسس وضعية منافية في جوهرها لوحدة الاعتقاد. بينما كانت الوحدة التقليدية الموروثة مبنية اساسا على الانتماء الجماعي الى مثال اعلى واحد ومشترك هو الذي يحدد وسائل واساليب الكلام والعمل. وعلى الذين لا يتفقون في اعتقادهم مع هذا المثال او لا يوافقون عليه ان يخرجوا من الجماعة او ان يخضعوا لقوانينها, اي لقانون الاغلبية. فالاغلبية هنا ليست عددية سياسية وانما اغلبية دينية ثابتة وغير قابلة للتغيير. بينما الاغلبية السياسية في الانظمة الحديثة ممكنة التغيير طالما انها لا تقوم على ثبات الاعتقاد. اي باختصاد ما كان يمكن للاقلية "الصابئة" ان تصبح اغلبية في الدولة الاسلامية. بينما يمكن للاشتراكية ان تصبح اغلبية سياسية في النظام الليبرالي الحديث.”
“تتطلب المشاركة الفعلية في السلطة رفض فكرة التماثل الثقافي الذي يقود بالضرورة الى تدمير قاعدة الديمقراطية. كما تتطلب ايضا رفض فكرة التماثل السياسي الذي يعني مصادرة المصالح المتميزة للجماعة واذابتها في مصلحة واحدة وهمية يعكسها تنظيم مصطنع واحد. وهذا لا يعني ان ليس هناك اليوم وسيلة للاجماع القومي الا بعقيدة دينية جامعة او بتمثيلية ليبرالية غريبة, ولكن المهم في الموضوع هو امكانية وصول الجماعة الى اجماع قومي يحفظ مساهمة كل الافراد في بناء السلطة المركزية التي سيخضعون لها.”
“لكن هذه المطابقة الثقافية التي تتولد كمسعى لتحقيق اجماع قومي من نمط ثقافي ليست الاجماع الديني الذي كانت تعرفه الدولة التقليدية .. فالمطابقة لا تحدث الا في اطار الدولة الحديثة كعملية اعادة تثمير سياسي للاجماع الديني الماضي. لان نشوؤ الدولة الحديثة يحطم اساسا قاعدة الاجماع القومي الثقافي القائم على استقلالية المجتمع المدني وهامشية الدولة. لذلك تجعل المطابقة التعصب بينما يقوم الاجماع الديني على وجود اغلبية اجتماعية ثقافية, ويقبل الاختلاف والاجتهاد ويرفض التماثل والسديمية. وهو اجماع قابل للتغير والتبدل مع تغير الظروف. ولا ينكص الدين الى حالة تعصبية الا عندما يؤدي التطور الاقتصادي والتفاوت الشديد بين الطبقات الى تحطيم وحدة العقيدة والتهديد بفقدان القدرة على انجاب اجماع قومي ثقافي. عندئد يغلق الاجتهاد وتحاول الجماعة ان تحفظ مظاهر الاجماع دون ان تصل الى تحقيقه فعلا. وعند ذلك تبدأ حقبة الاستبداد الحقيقي وتظهر امكانية تكوين سلطة مطلقة وفردية خارجة عن رقابة الجماعة والعلماء معا.”