“لم أبتسم وأنا أتذكّر كلمات ستّي المعهودة: شو يقولوا الناس، لأنّ الواقع هو الواقع. نحن لم نتغيّر عن أيام ستّي ولا شعرة، بل تراجعنا عدّة خطوات. البلد مليئة بالجلابيب والبراقع، وأصوات المآذن تتحفنا في كل صباح وكل مساء بهتافات مدويّة مسعورة عن الكاسيات العاريات الفاجرات العاهرات حتى بتنا نخاف من المشي في الشارع خوفاّ من لعنة أو رشقة حجر أو ماء نار. نمشي بالكُمّ والمستّر ونقف أمام المرآة قبل الخروج لنتأكد من المظهر حتى لا نغضب الشارع وشيخ الجامع. صرنا نخاف من الجامع ومن الشارع ونظرات الناس. صرنا نخاف. صرنا نسمع عن ذبح نساء اتُهمن جزافاً بسوء الخلق والتجسّس. سوء الخلق يعني لباساً مفتوحاً وتبرّجاً، أو قصة غرام وفضيحة، لأن الغرام يعني فضيحة ويعني تجسّساً. هذا ما وصلنا إليه في هذا السجن، هكذا صرنا! سحر خليفة، حبي الأول”
“هذا إذن هو حبس الدم، حوش الأغنياء حين افتقروا! إن أنت غبت، أو حتى متّ، يظل هناك من يعرفك أو يعرف عنك، أصلك وفصلك ومن أين جئت ومتى وُلدت وأين دفنوك. شيء جميل يردّ الروح وينعش القلب وأنت على باب الستّين أو السبعين، لكن ما قبل، وأنت شاب أو صبيّة، فأمر مفزع كالزنزانة وظلام القبر”
“من هو أول سجين في التاريخ؟ من الذي اخترع السجن؟ ... كيف كان شكل السجن الأول؟ هل هناك سجين واحد في كل العالم، في كل الأزمان، في كل السجون، قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر، ثم عندما يخرج يكون هو...هو؟”
“من هو أول سجين في التاريخ ؟ من الذي اخترع السجن ؟ .. كيف كان شكل السجين الأول ؟.. هل هناك سجين واحد في كل العالم .. في كل الأزمان .. في كل السجون .. قضى في السجن عاماً واحداً أو أكثر .. ثم عندما يخرج .. يكون هو .. هو ؟ !”
“كان يعز علي أن أبدو غبية، فاحتفظت بتساؤلاتي و انطباعاتي و التواءات شفتي داخل فمي، حتى ثقلت خطوتي و أصبحت رصينة و سعدت بذلك حتى سئمت، فأطلقت صوتا عظيما كالانفجار، فقال الوالد:" هذه البنت هوائية". و حتى أستعيد وزني و لا أبدو غبية، لم أشأ أن أسأل عن معنى الكلمة. لكني في السر بحثت عن الكلمة في المنجد فوجدت لها ارتباطا أكيدا بالهواء فارتاح بالي، فالهواء منعش و خفيف و أساسي للحياة لكن الوالد فسر الأمر من زاوية مختلفة إذ قال ان الهوائية نقيض الاحترام. أصابني الذعر فانثنيت حتى أثني علي، ثم سئمت فأطلقت هبة و حين تنفست..اختنق الجميع”
“إن كثيرا من المشايخ أو العلماء يعيشون في الكتب ولا يعيشون في الواقع، بل هم غائبون عن فقه الواقع، أو قل: فقه الواقع غائب عنهم، لأنهم لم يقرؤوا كتاب الحياة كما قرؤوا كتب الأقدمين. ولهذا تأتي فتواهم وكأنها خارجة من المقابر!”
“فحتى لو رأيت المشيعين والموقعين بأم عيني يمسحون حبر التواقيع عن بصماتهم بالجدران وثياب المارة. ولو انتشرت سياط التعذيب على حدود الوطن العربي كحبال الغسيل. وعلقت المعتقلات في زوايا الشوارع والمنعطفات كصناديق البريد. وسالت دمائي ودموعي من مجارير الأمم المتحدة.فلن أنسى ذرة من تراب فلسطين، أو حرفاً من حروفها، لا لأسباب نضالية ووطنية وتاريخية بل لأسباب لاتزال سراً من أسرار هذا الكون كإخفاقات الحب الأول! كبكاء الاطفال الرضع عند الغروب.لقد رتبت حياتي وكتبي وسريري وحقائبي منذ أيام الطفولة حتى الآن، على هذا الأساس. فكيف أتخلى عن كل شيء مقابل لا شيء. ثم إنني لم أغفر ضربة سوط من أجل الكونغو .. فكيف من أجل فلسطين؟ولذلك سأدافع عن حقدي وغضبي ودموعي بالأسنان والمخالب.سأجوع عن كل فقير، وسأسجن عن كل ثائر، وأتوسل عن كل مظلوم، وأهرب إلى الجبال عن كل مطارد، وأنام في الشوارع عن كل غريب . . لأن إسرائيل لا تخاف ضحكاتنا بل دموعنا. وقد يكون هذا زمن التشييع والتطبيع والتركيع، زمن الأرقام لا الاوهام والأحلام ولكنه ليس زماني. سأمحو ركبتي بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو تيار أو مرحلة. ثم أنا الذي لم أركع وأنا في الابتدائية أمام جدار من أجل جدول الضرب وأنا على خطأ. فهل أركع أمام العالم أجمع بعد هذه السنين وأنا على حق؟”