“علة هذه النظريات }التي تركز على الإرث الثقافي والديني والبنى الأنثروبولوجية- في تفسير الإستبداد{ أنها تمزج بين موقفين: تفسير الواقع الحاضر من خلال مفاتيح الماضي، وبالتالي الإعتراف المسبق وغير المقبول، بإستمرار الماضي في الحاضر، وغلبته؛ والاعتقاد في الوقت نفسه أن الواقع المادي والموضوعي، أي التاريخي، ينبع مباشرة من الرؤى والقيم والاعتقادات الذهنية. (.....).ولا يعني هذا أن العقائد والقيم والثقافات لا تلعب دوراً كبيراً في التاريخ. بل ليس من الممكن تصور الطفرات التاريخية والثورات الكبرى من دون تطورات فكرية وطفرات روحية مسبقة. لكن هذه الطفرات الروحية والفكرية نفسها لا تتم في الفراغ. بل إن جميع الأفكار والعقائد لا تمارس القدر نفسه من التأثير، ولا تمارس التأثير ذاته في كل الحقب والأوضاع. إن التحولات العميقة، ذات الزمانية الطويلة لا ترتبط بالثقافة والتحولات الذهنية، وإن كان لهذه التحولات دور كبير في الزمانية القصيرة. إن تاريخ المجتمعات، ونظمها أيضاً، هي، كما ذكرنا، محصلة إلتقاء عوامل متعددة، داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، وقائعية وتاريخية.ص 11-12”
“يكاد النقد أن يشمل اليوم جميع عقائديات ونظريات الحقبة الماضية، ولا يستثني أحدًا منها، بل غالبًا ما يتجاوزها لينفي الواقع العملي الذي كانت تعبّر عنه كما يحصل لفكرة القومية العربية ولغيرها من النظريات السلفية أو الإشتراكية. وإذا عبَّر هذا الجموح عن شيء، فإنما يعبّر عن عمق مشاعر الشك والحيرة التي بدأت تلفّ الوعي العربي حتى لتبدو جميع الحقائق واهية في مرآته ولا سند لها. ومن المعروف أن موت نظام اجتماعي ما أو تفسخع ينعكس مباشرة على الحقائق والبديهيات التي ترتبط بها وتبرره او تضفي عليه المشروعية فيفقدها عقلانيتها وصلاحيتها. ولا ريب أن لهذا الشك العميق مخاطره مثل ماله ايجابياته أيضًا. فهو يمكن أن يكون شكًا مدمرًا كما يمكن أن يكون شكًا خلاقًا وذلك بحسب مايفضي إليه من تعطيل للعقل وللمارسة أو ما يؤدي إليه من حث على التفكير والتأمل ودفع إلى إبداع أطر معرفية ومبادئ جديدة للنظر وللمبادرة. وليس هناك حتى الآن أي مؤشر عميق إلى أننا قد أجتزنا مرحلة الخطر في هذا المجال. فالأدبيات العربية الحديثة توشك أن تكون شكوى لا نهاية لها لما وصلت إليه الحياة الثقافية من إنحدار، واحتجاجًا لا يهدأ على ما وصلت إليه الحياة السياسية من تدهور، وندبًا متواصلًا على ما بلغته الحياة الاقتصادية، الزرعية والصناعية، من خراب.”
“لا تعني المناظرة العلمية الموضوعية تطبيق مفاهيم مجردة واحدة على كل ميادين النشاط الإجتماعي والإنساني، ولا استخدام تعابير العقل والعقلانية. فكثيرًا ما يغطي خطاب العلميّة أو العقلانية السعي لإضفاء صبغة من الشرعية الأكاديمية على كلام يفتقد الموضوعية ويبعد عنها كل البعد. بل إن لجوء الباحثين المتكرر إلى تأكيد علمية أقوالهم غالبًا ما يغطي شكهم هم أنفسهم في صحة منطلقاتهم، وفهمهم السطحي والمجرد لصفة العلمية.يقتضي المنهج العمي كما نفهمه الاعتراف أولًا لإستقلال الموضوع عن الفكر وقيامه بذاته. وهذا مبدأ اساسي لكل بحث جدي يرفض ان يماثل بين موضوع البحث كما هو قائم وبين الصورة التي يأخذها عنه. فمن إيجابيات هذه النظرة أنها تحصن الباحث من رؤية الموضوع من خلال مايريد الموضوع أن يظهر نفسه به أو مايريد الباحث ان يراه عليه. فكم من باحث ينتقد اليوم الأنظمة العربية على أنها نماذج لأنظمة قومية أو إسلامية، كما تريد هي أن تظهر نفسها لتنال بعض الشرعية، أو كما يريد هو أن يوسمها به ليبرر دعمه أو رفضه لها بدل تحليل هذه الأنظمة تحليلًا موضوعيًا يكشف عن حقيقة القوى الاجتماعية التي تقوم عليها، وطبيعة الأهداف التي تقوم عمليًا بتحقيقها والدفاع عنها. والاعتراف باستقلال الموضوع هو الشرط الأول للإنطلاق من الواقع الموضوعي، أي من الحركة والظاهرة لفهم قوانينها، وعدم السعي إلى التقرب منها من خلال الأفكار التي يصنعها المتحدثون عنها”
“ليس من الضروري اذن وجود فلسفة علمانية ونجاحها حتى تتحقق الديمقراطية, ولا العكس ايضا فليس بينهما علاقة وجوب. كما انه ليس من الضروري ايضا لقيام الامة وتوحيد الدولة فلسفة علمانية خاصة. لكن هذا لا يعني ان الديمقراطية الحديثة والامة العصرية , بمعنى المواطنية الواحدة لجميع السكان تقوم بالدين, ولا تستدعي التغيير الفكري والبنيوي. بل يعني ان هذا التغيير له قوانين اخرى مرتبطة مباشرة بالصراع على السلطة, الذي يشمل ايضا الصراع الفكري. والعلمانية ومصيرها السياسي يبينان المشروع الحقيقي والمصير التاريخي للنخبة العربية الحديثة التي بقيت على هامش سلطة الدولة , لا تناضل ضد التيار وانما معه, ولا تسير باتجاه الجمهور وانما بعكسه كي لا تحصد في النهاية الا تبخرها السياسي والفكري وزوالها.”
“لكن الجسد الذي يثقل الروح ويعذبها في سجنه يصبح هو ذاته شرطا لتحررها. وهي بحاجة اليه كما هو بحاجة اليها, والخلاص لهذه الامة الصوفية الفظيعة التي لا تكف عن استعادة بكارتها وفقدانها, في تاريخ آخر, هو دون شك ما وراء التاريخ الراهن: تاريخ الايديولوجية.”
“من تلك الدوافع والمقاصد ما يحصل بقصد التماهي مع الآخرين ومشاركتهم آراءهم وعقائدهم، كثيرًا ما يدفع حب التواصل والانسجام إلى الامتثالية والاقتداء. ومنها ما يحصل بحافز الهوى فلا يرى الباحث موضوعه إلّا من زاوية اشباع الرغبة المادية أو المعنوية التي دفعته إليه. ومنها ما يحصل بقصد الفهم والمرفة الخالصة، ويمكن لحب المعرفة أن يؤدي إلى الاستغراق في الموضوع وتجاهل كل ما يحيط به من عوامل وعواطف وقيم وأهداف إنسانية. ومنها ما يحصل بقصد تغيير الموضوع فيدفع الباحث إلى رؤية عناصر التغيير وتجاهل عناصر الثبات، إلخ.فكل مقصد من هذه المقاصد يظهر جانبًا من الواقع ويخفي جانبًا آخر لا يريد ان يبصره ولا يوليه اهتمامًا. وليس ناك مقولة او نظرة واحدة تستطيع ان تشمل كل المقاصد وترى الموضوع في جميع حالاته ومن جميع جوانبه مادام لا يوجد وعي متجرد عن كل شرط وحاله وموقع وزمان ورغبة. وهذا أصل أساسي من اصول اختلاف الناس في فهمهم للأمور، وسبب من اسباب تباينهم في الرأي. فإضافة إلى اتلاف الكلام باختلاف المتكلم وموقعه وشروط تكوينه الذاتيه وظروفه الاجتماعية وطبيعة المتلقي والشاهد وموقعه ومكانه وهي كلها عوامل تجعل الحقائق نسبية والمعارف متبدلة، هناك مقاصد الكلام المعلنة او الخفيّة التي تعبر عن مبدأ العلاقة الأولى بين الذات المفكرة وموضوع التفكير. وبقدر صدق الرغبة ووضح المقصد يكون وضوح الفكرة ووعي الباحث لحدود معرفته وظروفها.وترجمة هذا بالنسبة لموضوع الواقع العربي، أن التغيير الذي تطالب به كل الأطراف لا يمكن أن يتحقق إلا بقدر صدق الرغبة فيه ووضوح مقصده. وتوجه البحث نحو فتح آفاق جديدة للمارسة وللمبادرة الاجتماعية. وهذا يقتضي التركيز على مكامن القوة في الواقع والثقافة والتاريخ العربي مقابل نقاط الضعف والتفكك، ورؤية التناقضات المحركة مقابل التشديد على التماثلات المجمدة والمثبطة”
“إن نظره سريعة إلى مايجيش به المجتمع العربي من صراعات وانفجارات لكافية لرؤية الأبعاد الروحية والمادية لهذه الأزمة المفتوحة. ولعل أهم مظاهرها وأعمقها اليوم هي فقدان الأمن والطمأنينة، وزوال كل يقين، والخوف من العالم والميل إلى الإنطواء على النفس والتخلي عن كل موقف إيجابي تجاه الواقع، والخلود إلى موقف السلبية الشاملة المتجسدة في رفض الذات وفي رفض الآخر معًا، وغياب فاعلية كل المثل الكبرى الباعثة للأمل والحاثة على العمل والمحفزة للإرادة”