“العوامّ لا يثور غضبهم على المستبدّ غالبًا إلّا عقب أحوال مخصوصة مهيّجة فوريّة، منها:عقب مشهدٍ دمويّ مؤلمٍ يوقعه المستبدّ على مظلوم يريد الانتقام لناموسه.عقب حربٍ يخرج منها المستبدّ مغلوبًا، ولا يتمكّن من إلصاق عار الغلب بخيانة القوّاد.عقب تظاهر المستبدّ بإهانة الدّين إهانة مصحوبًة باستهزاء يستلزم حِدَّة العوامّ.عقب تضييق شديد عامَ مقاضاة لمالٍ كثير لا يتيسّر إعطاؤه حتّى على أواسط النّاس.في حالة مجاعة أو مصيبة عامّة لا يرى النّاس فيها مواساة من المستبدّ.عقب عمل للمستبدّ يستفزّ الغضب الفوريّ، كتعرّضه لناموس العرض، أو حرمة الجنائز في الشّرق، وتحقيره القانون أو الشّرف الموروث في الغرب.عقب حادث تضييق يوجب تظاهر قسمٍ كبير من النّساء في النّصرة والاستنصار.عقب ظهور موالاة شديدة من المستبدّ لمن تعتبره الأمّة عدوًّا لشرفها.إلى غير ذلك من الأمور المماثلة لهذه الأحوال الّتي عندها يموج النّاس في الشّوارع والسّاحات، وتملأ أصواتهم الفضاء، وترتفع فتبلغ عنان السّماء، ينادون الحقّ الحقّ، الانتصار للحقّ، الموت أو بلوغ الحقّ.”
“ترتعد فرائص المستبدّ من علوم الحياة مثل الحكمة النّظريّة، والفلسفة العقليّة، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسّياسة المدنيّة، والتّاريخ المفصّل، والخطابة الأدبيّة، ونحو ذلك من العلوم الّتي تكبِّر النّفوس وتوسّع العقول وتعرِّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطّلب وكيف النّوال، وكيف الحفظ. وأخوف ما يخاف المستبدّ من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم النّاس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبّر عنهم في القرآن بالصّالحين والمُصلحين في نحو قوله تعالى: (أنّ الأرض يرثها عبادي الصّالحون)، وفي قوله: (وما كان ربّك ليُهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون)، وإن كان علماء الاستبداد يفسّرون مادّة الصّلاح والإصلاح بكثرة التّعبّد، كما حوّلوا معنى مادّة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التّشويش على المستبدّين.”
“العوامّ هم قوّة المستبدّ وقوْته، بهم عليهم يصول ويطول؛ يأسرهم، فيتهلّلون لشوكته؛ ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم؛ ويهينهم فيثنون على رفعته؛ ويُغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته؛ وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريمًا؛ وإذا قتل منهم ولم يمثِّل، يعتبرونه رحيمًا؛ ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التّوبيخ؛ وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنّهم بغاة.”
“الاستبداد لا ينبغي أن يُقاوم بالعنف، كي لا تكون فتنةٌ تحصد النّاس حصدًا؛ نعم، الاستبداد قد يبلغ من الشّدة درجة تنفجر عندها الفتنة انفجارًا طبيعيًّا، فإذا كان في الأمّة عقلاء يتباعدون عنها ابتداءً، حتّى إذا سكنت ثورتها توعًا وقضت وظيفتها في حصد المنافقين، حينئذٍ يستعملون الحكومة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة، وخير ما تؤسّس يكون بإقامة حكومة لا عهد لرجالها بالاستبداد ولا علاقة لهم بالفتنة.”
“المجد لا يُنال إلا بنوع من البذل في سبيل الجماعة وبتعبير الشرقيين في سبيل الله أو سبيل الدين ، وبتعبير الغربيين في سبيل المدنية أو سبيل الإنسانية ”
“ومن طبائع الاستبداد أنّه لا يظهر فيه أثر فقر الأمّة ظهورًا بيّنًا إلّا فجأة قُريب قضاء الاستبداد نحبه، وأسباب ذلك أنّ النّاس يقتصدون في النّسل وتكثر وفيّاتهم ويكثر تغرّبهم، ويبيعون أملاكهم من الأجانب فتتقلّص الثّروة وتكثر النّقود بين الأيدي. وبئست من ثروةٍ ونقودٍ تشبه نشوة المذبوح.”
“فالقاتل، مثلاً، لا يستنكر شنيعته في المرّة الثّانية كما استقبحها من نفسه في الأولى، وهكذا يخفّ الجرم في وهمه، حتّى يصل إلى درجة التّلذّذ بالقتل كأنّه حقّ طبيعيّ له، كما هي حال الجبّارين وغالب السّياسيّين، الّذين لا ترتجّ في أفئدتهم عاطفة رحمة عند قتلهم أفرادًا أو أممًا لغايتهم السّياسيّة، إهراقًا بالسّيف أو إزهاقًا بالقلم، ولا فرق بين القتل بقطع الأوداج وبين الإماتة بإيراث الشّقاء غير التّسريع والإبطاء.”