“أىّ بلد هذا الذى يسرق فيه الأطباء كُلْية مريض فى أثناء علاجه فى مستشفى؟ كم نظاما اجتماعيا يجب أن ينهار حتى نصل إلى هذه النقطة؟”
“كنتُ حتى هذا اليوم أتغافل عن الموت، وأتظاهر بأنه لا يعنينى فى شىء؛ أقرأ عن أناس ماتوا، أعرف أناسا مات لهم أقارب وأحباء، أتابع الأخبار وأشاهد جثث القتلى فى الحروب التى لا تنقطع، وكلها بالنسبة إلىّ أرقام وأحداث، مثل المذكِّرات التى أكتبها فى عملى أو الترجمة التى أقوم بها. كم مرة ترجمت أحاديث عن قتلى وجرحى بالجملة، دون أن أشعر بشىء، دون أن أشعر أنى أنا شخصيا معنىّ بالموت ! وحين مات أبى مسَّنى موته فى أعماقى، وكان أول أجراس الإنذار التى دقَّت فى حياتى القصيرة، لكنى تغاضيت عنه بعد ذلك لسنوات طويلة. ثم ماتت أمى، ومن هذا اليوم حل الموت ضيفا مقيما فى حياتى. كأنه كسر الباب الذى حمانى، وأصبحت حياتى مَشاعا له يرتع فيه صباح مساء. سيظل مقيما معى، يحصد أرواح من أحب، حتى يجىء دورى، ربما غدا أو بعد غد. سنرى. لا داعى لاستباق الأحداث. لأعُد إلى حكايتى.”
“أعتقد أن قبولى هذه الوظيفة لم يكن فقط لهذه الأسباب، بل لأنى خفت. خفت أن أخرج من القصر الرئاسى إلى عالم لا أعرفه. صحيح أن الثورة فتحت لى آفاقا كنت أجهل وجودها، وجعلتنى أكتشف مِصر أخرى غير تلك التى عرفتها من قبل. وصحيح أن ذلك فتح فى حياتى أبوابا لبهجة جديدة علىّ، وصرت أرى حياتى القديمة ضيقة ومحدودة وأتعجّب كيف قضيت أربعين عاما فى هذا الإطار الخانق. لكن حين جاءت لحظة الاختيار بين أمان ما أعرفه واعتدته، والمجهول، خفت الخروج من المكان الوحيد الذى أعرف فيه الأمان، خفت أن أضيع إن تركت العالم الوحيد الذى لى فيه قيمة وأصبح عالة على أصدقائى أو حماى. بالمقارنة مع هذا الضياع المحتمَل، كان المقدم المنيسى يعرض علىّ الجلوس بجوار العرش، وربما القدرة على التأثير فى قراراته. ومن ثَمَّ قبِلت.”
“كنت مدفوعا برغبة قوية فى إيذاء الذات. كأنى أردت أن أدفع نفسى إلى القاع تماما، أن أصبح جزءا من القسوة المحيطة بى وأغسل أصولى المرفهة بالانغماس فى الانحطاط الذى يغمر البلد.”
“هذا هو ثمن الغربة: أن تموت أمك وأنت عنها بعيد، لا تشهد ضعفها وهزالها، لا تكون لها أبا حين تعود هى إلى طور الطفولة، ولا تستطيع حتى المشاركة فى دفنها.”
“لا أزعم لك أن حياة الشعب شاعرية أو نبيلة، بل مليئة بالكد والقسوة. بعض هذه القسوة مباشر فى الوجه، كفرض الإتاوة على أكل عيش الفقراء، كسرقة الكحكة من يد اليتيم، كبلطجة الشرطة على الناس وعجزها عن حمايتهم فى آن واحد، كمياه الشرب النقية التى يجب أن تمشى إليها وتعبئها فى آنية وتعود بها للبيت كالغنيمة، كطابور الخبز المدعم، كالفقر والحاجة التى لن تستطيع سدها مهما فعلت. هذه بعض ملامح القسوة اليومية المباشرة، المعروفة للجميع. لكن القسوة الحقيقية هى تلك التى تَسرَّبت إلى القلوب فعوّدتها ما لا يجب أن تعتاده.”
“فى كل ما سبق هذا ما أندم عليه، كل هذا الوقت الذى ضاع والذى لا يمكننى استعادته، كل هذا الوقت الذى كان يمكننى قضاؤه معك، وتركته وتركتك”