“كنتُ حتى هذا اليوم أتغافل عن الموت، وأتظاهر بأنه لا يعنينى فى شىء؛ أقرأ عن أناس ماتوا، أعرف أناسا مات لهم أقارب وأحباء، أتابع الأخبار وأشاهد جثث القتلى فى الحروب التى لا تنقطع، وكلها بالنسبة إلىّ أرقام وأحداث، مثل المذكِّرات التى أكتبها فى عملى أو الترجمة التى أقوم بها. كم مرة ترجمت أحاديث عن قتلى وجرحى بالجملة، دون أن أشعر بشىء، دون أن أشعر أنى أنا شخصيا معنىّ بالموت ! وحين مات أبى مسَّنى موته فى أعماقى، وكان أول أجراس الإنذار التى دقَّت فى حياتى القصيرة، لكنى تغاضيت عنه بعد ذلك لسنوات طويلة. ثم ماتت أمى، ومن هذا اليوم حل الموت ضيفا مقيما فى حياتى. كأنه كسر الباب الذى حمانى، وأصبحت حياتى مَشاعا له يرتع فيه صباح مساء. سيظل مقيما معى، يحصد أرواح من أحب، حتى يجىء دورى، ربما غدا أو بعد غد. سنرى. لا داعى لاستباق الأحداث. لأعُد إلى حكايتى.”
“أحب النوارس التى تلجأ إلى البحر فى العاصفة، وأكره الموت الذى ينام على حياتى الواقفة، وأنتظر.”
“كل فرار مؤقت، حتى يرتطم بك نيزك آخر من الاستبداد وضيق الأفق. وإن واصلتَ الفرار ستعيش فى فرار دائم. لا وجود لذلك الحلم الذى باعه لنا عمر الخيام ومن سار فى خطاه: لا وجود للحديقة الغَنَّاء التى تستلقى فيها مع حبيبتك على بساط آمن وتأكلان وتشربان وتلهوان وتتحابان وتنامان على وقع الموسيقى وتستيقظان فى حبور، دون أن تشغلا بالكما بالعالم وشروره. لا مكان يا يحيى لهذا الحلم إلا فى المنام. أما هنا، فلا أمان لك دون الآخرين. لن تجد الأمان وسط الرعب، وإن خُيِّل إليك أنك وجدته فاعلم أنه مؤقَّت، وستأتى عصا غليظة وتنقضّ عليه فى أى وقت. يمكنك التظاهر بالأمان. يمكنك مواصلة الحياة على الهامش متخيلا أن شيئا ما سيحميك: منصبك، قريب أو صديق، حسن سلوكك وبُعدك عن المشكلات، أو قلة أهميتك. لكن لا شىء من هذا يحميك حين تنزل عليك كف السلطان الظالم، على وجهك، أو مسرحك، أو فقاعتك التى صنعتَ لنفسك، أو على رأس مدينتك بكاملها، أو حتى على وجه ذلك الذى يسير بجوارك. عندها، حتى لو لم تُصِبْك الضربة مباشرة فتقتلْك أو تجرحْك أو تقضِ على فقاعتك، فإنها ستصيب جارك، وسترى ذلك بعينيك، وينكمش فيك شىء، ينقبض فيك شىء، ينغلق فيك شىء، تتعظ، وتصير من هذا اليوم وصاعدا، ناقص الحرية، ناقص الإرادة، ناقص الشجاعة، ناقص الرجولة، ناقص الإنسانية.”
“أعتقد أن قبولى هذه الوظيفة لم يكن فقط لهذه الأسباب، بل لأنى خفت. خفت أن أخرج من القصر الرئاسى إلى عالم لا أعرفه. صحيح أن الثورة فتحت لى آفاقا كنت أجهل وجودها، وجعلتنى أكتشف مِصر أخرى غير تلك التى عرفتها من قبل. وصحيح أن ذلك فتح فى حياتى أبوابا لبهجة جديدة علىّ، وصرت أرى حياتى القديمة ضيقة ومحدودة وأتعجّب كيف قضيت أربعين عاما فى هذا الإطار الخانق. لكن حين جاءت لحظة الاختيار بين أمان ما أعرفه واعتدته، والمجهول، خفت الخروج من المكان الوحيد الذى أعرف فيه الأمان، خفت أن أضيع إن تركت العالم الوحيد الذى لى فيه قيمة وأصبح عالة على أصدقائى أو حماى. بالمقارنة مع هذا الضياع المحتمَل، كان المقدم المنيسى يعرض علىّ الجلوس بجوار العرش، وربما القدرة على التأثير فى قراراته. ومن ثَمَّ قبِلت.”
“عندما رأيتها لأول مرة، لم يحدث لى أى شىء. لا تدَع الأفلام والأغانى والروايات تخدعك، وتوهمك بأن صواعق ستحلّ عليك حين ترى محبوبتك لأول مرة، وأن النور سينبلج من الظلمة ويغشاك توهُّج يجعل خلاياك تحترق. فى معظم الأحيان، ربما فى كل الأحيان، لن يحدث لك شىء من هذا حين ترى لأول مرة المرأة التى ستصبح حبيبتك. كل ما هنالك أنى لاحظتها، كأنى أخذت علما بوجودها وأدرجتها فى مكان ما فى ذاكرتى.”
“لا أزعم لك أن حياة الشعب شاعرية أو نبيلة، بل مليئة بالكد والقسوة. بعض هذه القسوة مباشر فى الوجه، كفرض الإتاوة على أكل عيش الفقراء، كسرقة الكحكة من يد اليتيم، كبلطجة الشرطة على الناس وعجزها عن حمايتهم فى آن واحد، كمياه الشرب النقية التى يجب أن تمشى إليها وتعبئها فى آنية وتعود بها للبيت كالغنيمة، كطابور الخبز المدعم، كالفقر والحاجة التى لن تستطيع سدها مهما فعلت. هذه بعض ملامح القسوة اليومية المباشرة، المعروفة للجميع. لكن القسوة الحقيقية هى تلك التى تَسرَّبت إلى القلوب فعوّدتها ما لا يجب أن تعتاده.”
“تنتابنى رغبة قوية فى أن أختفى . ليس فى الإنتحار لأنى أحب الحياة مثل محمود درويش ما استطعت إليها سبيلًا ، ولكن رغبة فى أن أختفى . فى أن لا أكون قد وُلدت أساسًا أو وُجدت . فى أن لا يكون لى اسم أو ذِكر أو أكون قد رأيت ما رأيت أو سمعت أو فهمت .”